للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وقيل: إنها تتضرر بشدة النور فتقصد إطفاءه فشدة جهلها تورّط نفسها فيما لا قدرة لها عليه.

وقال الغزالي: التمثيل واقع على صورة الإكباب على الشهوات من الإنسان بإكباب الفراش على التهافت في النار، ولكن جهل الآدمي أشدّ من جهل الفراش، لأنها باغترارها بظاهر الضوء إذا احترقت انتهى عذابها في الحال، والآدمي يبقى في النار مدة طويلة أو أبدا.

وقال الطيبي: تحقيق التشبيه الواقع في هذا الحديث يتوقف على معرفة معنى قوله تعالى: وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة ٢٢٩] وذلك أن حدود اللَّه هي محارمه ونواهيه كما في الحديث الصحيح: «إلا أن حمى اللَّه محارمه» ورأس المحارم حبّ الدنيا وزينتها واستبقاء لذتها وشهواتها، فشبّه صلى الله عليه وسلّم تلك الحدود ببياناته الشافية الكافية من الكتاب والسنة باستيقاد الرجل النار، وشبّه فشوّ ذلك الكشف في مشارق الأرض ومغاربها بإضاءة تلك النار ما حول المستوقد، وشبّه الناس وعدم مبالاتهم بذلك البيان والكشف وتعدّيهم حدود اللَّه تعالى وحرصهم على استيفاء تلك اللذات والشهوات ومنع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إياهم عنه بأخذ حجزهم: بالفراش اللاتي يقتحمن في النار ويغلبن المستوقد على دفعه إياها عن الاقتحام، وكما أن المستوقد كان غرضه من فعله انتفاع الخلق به من الاهتداء والاستدفاء وغير ذلك، والفراش بجهلها جعلته سببا لهلاكها: كذلك كان القصد بتلك البيانات اهتداء الأمة واحتماءها عما هو سبب هلاكهم، وهم مع ذلك لجهلهم جعلوها موجبة لتردّيهم.

وفي قوله:

«آخذ بحجزكم»

استعارة مثّلت حالة منعه صلى الله عليه وسلّم الأمة عن الهلاك بحالة رجل أخذ بحجزة صاحبه الذي يهوي. أن يهوي في قعر بئر مردية.

والفاء في قوله:

«فأنا آخذ بحجزكم»

فصيحة كما في قوله تعالى: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ [الحجرات ١٢] . فإنه تعالى لما سأل بقوله: «أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً» فأجابوا لا. قال: فإذا كان كذلك «فَكَرِهْتُمُوهُ» وكذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما

قال للناس: «مثلي ومثلكم»

أي صفتي وصفتكم. ثم شرع في بيان المشبّه بقوله:

«مثل رجل»

إلخ، وعلم منه ما يقابله من التشبيهات على ما بيّناها آنفا، أتى بما هو أهمّ وأولى منها وهو قوله:

«فأنا آخذ بحجزكم»

بالفاء. كأنه قيل: إذا صح هذا التمثيل وأنا مثل المستوقد وأنتم كالفراش تقتحمون في النار فأنا آخذ بحجزكم.

ولهذه الدقيقة التفت من الغيبة في قوله

«مثل الناس»

إلى الخطاب في قوله:

«فأنا آخذ بحجزكم»

كما أنك إذا أخذت في حديث من لك عناية بشأنه، والحال أنه مشتغل بشيء