للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وقوله: «أو ببعضه» يريد به إذا نذر الصدقة بمعيَّنٍ من ماله أو بمقدار كألف ونحوها فيجزئه ثلثه كنذر الصدقة بجميع ماله، والصحيح من مذهبه لزوم الصدقة بجميع المعين. وفيه رواية أخرى: أن المعين إن كان ثلث ماله فما دون لزمه الصدقةُ بجميعهُ، وإن زاد على الثلث لزمه منه بقدر الثلث، وهي أصح عند أبي البركات (١).

وبعدُ، فإن الحديث ليس فيه دليل على أن كعبًا أو أبا لبابة نذرا نذرًا مُنْجَزًا، وإنما قالا: إن من توبتنا أن ننخلع من أموالنا، وهذا ليس بصريح في النذر، وإنما فيه العزم على الصدقة بأموالهما شكرًا لله على قبول توبتهما، فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن بعض المال يجزئ من ذلك، ولا يحتاجان إلى إخراجه كله، وهذا كما قال لسعد وقد استأذنه أن يوصي بماله كله فأذن له في قدر الثلث (٢).

فإن قيل: هذا يدفعه أمران، أحدهما: قوله: «يجزئك» والإجزاء إنما يستعمل في الواجب، والثاني: أن منعه من الصدقة بما زاد على الثلث دليل على أنه ليس بقربة إذ الشارع لا يمنع من القُرَب ونذر ما ليس بقربة لا يلزم الوفاء به.

قيل: أما قوله: «يجزئك» فهو (٣) بمعنى يكفيك، فهو من الرُّباعي وليس من (جزى عنه) إذا قضى عنه، يقال: (أجزأني) إذا كفاني و (جزى عني) إذا قضى عني (٤)، وهذا هو الذي يستعمل في الواجب، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بردة في الأضحية: «تَجزي عنك ولن تَجزي عن أحد بعدك» (٥)، والكفاية تستعمل في الواجب والمستحب.

وأما منعه من الصدقة بما زاد على الثلث، فهو إشارة منه عليه بالأرفق به وما يحصل له به منفعةُ دينه ودنياه، فإنه لو مكَّنه من إخراج ماله كله لم يصبر على الفقر والعدم، كما فعل بالذي جاءه بالصرة ليتصدَّق بها فضربه بها ولم يقبلها منه خوفًا عليه من الفقر وعدم الصبر (٦).

وقد يقال ــ وهو أرجح إن شاء الله ــ: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - عامل كلَّ واحدٍ ممن أراد الصدقة بماله بما يَعلم من حاله، فمكن أبا بكر الصديق من إخراج ماله كلِّه وقال: «ما أبقيت لأهلك؟» فقال: أبقيت لهم الله ورسوله، فلم ينكر عليه، وأقر عمر على الصدقة بشطر ماله (٧)، ومنع صاحب الصرَّة من التصدق بها، وقال لكعب: «أمسك عليك بعض مالك»، وهذا ليس فيه تعيين المُخرَج بأنه الثلث، ويَبعُد جدًّا بأن يكون الممسَك ضعفَي المخرَج في هذا اللفظ، وقال لأبي لبابة: «يجزئك الثلث»؛ ولا تناقض بين هذه الأخبار.

وعلى هذا، فمن نذر الصدقة بماله كله أمسك منه ما يحتاج إليه هو وأهله، ولا يحتاجون معه إلى سؤال الناس مدَّةَ حياتهم من رأس مال أو عقار أو أرض يقوم مُغَلُّها بكفايتهم، وتصدَّق بالباقي. والله أعلم.

وقال ربيعة بن أبي عبد الرحمن: يتصدَّق منه بقدر الزكاة ويمسك الباقي. وقال جابر بن زيد: إن كان ألفين فأكثر أخرج عُشرَه، وإن كان ألفًا فما دون فسُبْعَه، وإن كان خمسمائة فما دون فخمسه.

وقال أبو حنيفة: يتصدق بكُلِّ ماله الذي تجب فيه الزكاة، وما لا تجب فيه الزكاة ففيه روايتان، إحداهما: يخرجه، والثانية: لا يلزمه منه شيء.

وقال الشافعي: يلزمه الصدقةُ بماله كله. وقال مالك والزهري وأحمد: يتصدق بثلثه. وقالت طائفة: يلزمه كفارة يمينٍ فقط (٨).

فصل

ومنها: عظم مقدار الصدق، وتعليق سعادة الدنيا والآخرة والنجاة من شرهما به، فما أنجى الله من أنجاه إلا بالصدق، ولا أهلك من أهلكه إلا بالكذب، وقد أمر تعالى عباده المؤمنين أن يكونوا مع الصادقين فقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: ١١٩].

وقد قسم سبحانه الخلق إلى قسمين: سُعداء وأشقياء، فجعل السعداء هم أهل الصدق والتصديق، والأشقياءَ هم أهل الكذب والتكذيب، وهو


(١) هو ابن تيمية الجدُّ في «المحرر» (٢/ ١٩٩). وانظر: «الإنصاف» (٢٨/ ١٩٣).
(٢) أخرجه البخاري (٢٧٤٢) ومسلم (١٦٢٨).
(٣) «فهو» ساقط من ص، د.
(٤) انظر: «غريب الحديث» لابن قتيبة (٢/ ٤ - ٥) و «تهذيب اللغة» (١١/ ١٤٢ - ١٤٤) و «إصلاح غلط المحدثين» للخطابي (ص ٥٢).
(٥) أخرجه البخاري (٩٥٥) ومسلم (١٩٦١) من حديث البراء.
(٦) أخرجه أبو داود (١٦٧٣) والدارمي (١٧٠٠) وابن خزيمة (٢٤٤١) وابن حبان (٣٣٧٢) والحاكم (١/ ٤١٣) من حديث جابر بإسناد حسن، وفيه قوله - صلى الله عليه وسلم -: «يعمد أحدكم إلى ماله لا يملك غيرَه فيتصدَّق به، ثم يقعد يتكفّف الناس، إنما الصدقة عن ظهر غنى، خذ الذي لك لا حاجة لنا به». هذا لفظ الدارمي.
(٧) أخرجه أبو داود (١٦٧٨) والترمذي (٣٦٧٥) والدارمي (١٧٠١) والحاكم (١/ ٤١٤) والضياء في «المختارة» (١/ ١٧٣) من حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
(٨) الأقوال السابقة كلُّها من «المغني» (١٣/ ٦٢٩ - ٦٣٠). وانظر: «الموطأ» (١٣٨٦) و «الأم» (٣/ ٦٥٨) و «المبسوط» (٤/ ١٣٤ - ١٣٥) و «الإنصاف» (٢٨/ ١٨٩).