وقد ذكر أبو عبيد في كتاب «غريب الحديث»(١) له بإسناده عن عبد الرَّحمن بن أبي ليلى أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - احتجم على رأسه بقَرْنٍ حين طُبَّ. قال أبو عبيد: معنى طُبَّ: أي سُحِر.
وقد أشكل هذا على من قلَّ علمه وقال: ما للحجامة والسِّحر؟ وما الرَّابطة بين هذا الدَّاء وهذا الدَّواء؟ ولو وجد هذا القائل أبقراط أو ابن سينا أو غيرهما قد نصَّ على هذا العلاج لتلقَّاه بالقبول والتَّسليم، وقال: قد نصَّ عليه من لا يُشَكَّ في معرفته وفضله.
فاعلم أنَّ مادَّة السِّحر الذي أصيب به - صلى الله عليه وسلم - انتهت إلى رأسه إلى إحدى قواه الَّتي فيه، بحيث كان يخيَّل إليه أنَّه يفعل الشَّيء ولم يفعله. وهذا تصرُّفٌ من السَّاحر في الطَّبيعة والمادَّة الدَّمويَّة، بحيث غلبت تلك المادَّة على البطن المقدَّم منه، فغيَّرت مزاجه عن طبيعته الأصليَّة.
والسِّحر هو مركَّبٌ من تأثيرات الأرواح الخبيثة وانفعال القوى الطَّبيعيَّة عنها، وهو أشدُّ ما يكون من السِّحر، ولا سيَّما في الموضع الذي انتهى السِّحر إليه. واستعمال الحجامة على ذلك المكان الذي تضرَّرت أفعاله بالسِّحر من أنفع المعالجة إذا استُعمِلت على القانون الذي ينبغي.
(١) (٣/ ٤٠٥) والنقل من كتاب الحموي (ص ٣١٨). وقد أخرجه أبو عبيد عن هشيم، عن حصين بن عبد الرَّحمن، عن ابن أبي ليلى مرسلًا. وأخرجه أيضًا ابن سعد في «الطَّبقات» (٢/ ٢٠١) من طريق أبي عوانة، والطَّبريُّ في «تهذيب الآثار» (١/ ٥٣٠ - مسند ابن عبَّاس) من طريق ابن إدريس، كلاهما عن حصين، عن ابن أبي ليلى بنحوه. واحتجامُه - صلى الله عليه وسلم - في رأسه مخرَّجٌ في الصَّحيحين.