للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الاستحباب والاختيار والإرشاد. وأمَّا الأكل معه ففعله لبيان الجواز وأنَّ هذا ليس بحرامٍ.

وقالت فرقةٌ أخرى (١): بل الخطاب بهذين الخطابين جزئيٌّ لا كلِّيٌّ، فكلُّ واحدٍ خاطبه النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بما يليق بحاله. فبعض النَّاس يكون قويَّ الإيمان قويَّ التَّوكُّل، تدفع قوَّةُ توكُّله قوَّةَ العدوى، كما تدفع قوَّةُ الطَّبيعة قوَّةَ العلَّة فتُبطِلها. وبعضُ النَّاس لا يقوى على ذلك فخاطبه بالاحتياط والأخذ بالتَّحفُّظ. وكذلك هو - صلى الله عليه وسلم - فعل الحالتين معًا، لتقتدي به الأمَّة فيهما، فيأخذ من قوي من أمَّته بطريقة التَّوكُّل والقوَّة والثِّقة باللَّه، ويأخذ مَن ضعُف منهم بطريقة التَّحفُّظ والاحتياط. وهما طريقان صحيحان. أحدهما للمؤمن القويِّ، والآخر للمؤمن الضَّعيف. فيكون لكلِّ واحدٍ من الطَّائفتين حجَّةٌ وقدوةٌ بحسب حالهم وما يناسبهم. وهذا كما أنَّه - صلى الله عليه وسلم - كوى، وأثنى على تاركِ (٢) الكيِّ وقرَن تركَه بالتَّوكُّل وتركِ الطِّيرة. ولهذا نظائر كثيرةٌ، وهذه طريقةٌ لطيفةٌ حسنةٌ جدًّا من أعطاها حقَّها ورُزِق فقهَ نفسٍ (٣) فيها أزالت عنه تعارضًا كثيرًا يظنُّه بالسُّنَّة الصَّحيحة.

وذهبت فرقةٌ أخرى إلى أنَّ الأمر بالفرار منه ومجانبته لأمرٍ طبيعيٍّ، وهو انتقال الدَّاء منه بواسطة الملامسة والمخالطة والرَّائحة إلى الصَّحيح، وهذا يكون مع تكرير المخالطة والملابسة (٤) له. وأمَّا أكلُه معه مقدارًا يسيرًا من


(١) انظر: المصدر السابق.
(٢) د، ن: «تاركي».
(٣) ل: «نفسه»، وكذا في طبعة عبد اللطيف وما بعدها.
(٤) ز، ل: «الملامسة». وكذا في طبعة عبد اللطيف وما بعدها.