لأنَّ قصَّة بريرة وردت بنقل الكافَّة، ولم يبق بالمدينة مَن لم يعرف ذلك؛ لأنَّها صفقةٌ جرَتْ بين أمِّ المؤمنين وبين بعض الصَّحابة، وهم موالي بريرة، ثمَّ خطب رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - النَّاسَ في أمر بيعها خُطبةً في غير وقت الخطبة، ولا يكون شيءٌ أشهر من هذا، ثمَّ كان مِن مَشْي زوجها خلفها باكيًا في أزقَّة المدينة ما زاد الأمرَ شهرةً عند النِّساء والصِّبيان، قالوا: فظهر يقينًا أنَّه إجماعٌ من الصَّحابة، إذ لا يظنُّ بصاحبٍ أنَّه يخالف مِن سنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل هذا الأمر الظَّاهر المستفيض. قالوا: ولا يمكن أن توجِدونا عن أحدٍ من الصَّحابة المنعَ مِن بيع المكاتَب إلا روايةً شاذَّةً عن ابن عبَّاسٍ لا يعرف لها إسنادٌ (١).
واعتذر مَن منع بيعه بعذرين:
أحدهما: أنَّ بريرةَ كانت قد عجَزَت، وهذا عذر أصحاب الشَّافعيِّ.
والثَّاني: أنَّ البيع ورد على مال الكتابة لا على رقبتها، وهذا عذر أصحاب مالك.
وهذان العذران أحوج إلى أن يُعْتَذر عنهما من الحديث، ولا يصحُّ واحدٌ منهما، أمَّا الأوَّل: فلا ريب أنَّ هذه القصَّة كانت بالمدينة، وقد شهدها العباس وابنه عبد الله، وكانت الكتابة تسع سنين في كلِّ سنةٍ أوقيَّةٌ، ولم تكن أدَّت بعدُ شيئًا، ولا خلاف أنَّ العباسَ وابنَه إنَّما سكنا المدينة بعد فتح مكَّة، ولم يعش النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك إلا عامين وبعض الثَّالث، فأين العجز وحلول النُّجوم؟!
(١) حكاية الإجماع والحِجاج للمسألة ذكره مُطوّلًا ابنُ حزم في «المحلى»: (٩/ ٣٢، ٢٣٢ - ٢٣٨).