للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قالوا: وأمَّا تفسير حديث «إنَّما الرَّضاعة من المجاعة» بما ذكرتموه، ففي غاية البعد من اللَّفظ، ولا يتبادر إليه أفهام المخاطبين، بل القول في معناه ما قاله أبو عبيد والنَّاس. قال أبو عبيد (١): قوله: «إنَّما الرَّضاعة من المجاعة»، يقول: إنَّ الذي إذا جاع كان طعامه الذي يُشْبِعه اللَّبن، إنَّما هو الصَّبيُّ الرَّضيع. فأمَّا الذي شِبَعُه (٢) من جوعه الطَّعام فإنَّ رضاعه ليس برضاعٍ. ومعنى الحديث: إنَّما الرَّضاع في الحولين قبل الفطام.

هذا تفسير أبي عبيد والنَّاس، وهو الذي يتبادر فهمه من الحديث إلى الأذهان، حتَّى لو احتمل الحديث التَّفسيرين على السَّواء لكان هذا المعنى أولى به، لمساعدة سائر الأحاديث لهذا المعنى، وكَشْفِها له وإيضاحِها. وممَّا يُبيِّن أنَّ غير هذا التَّفسير خطأٌ، وأنَّه لا يصحُّ أن يُراد به رضاعة الكبير: أنَّ لفظة المجاعة إنَّما تدلُّ على رضاعة الصَّغير، فهي تُثبِت رضاعة المجاعة وتنفي غيرها، ومعلومٌ يقينًا أنَّه إنَّما أراد مجاعة اللَّبن، لا مجاعة الخبز واللَّحم، فهذا لا يخطر ببال المتكلِّم ولا السَّامع، فلو جعلنا حكم الرَّضاعة عامًّا لم يبقَ لنا ما ينفي ويثبت.

وسياق قوله: لمَّا رأى الرَّجل الكبير فقال: «إنَّما الرَّضاعة من المجاعة» يُبيِّن المراد، وأنَّه إنَّما يُحرِّم رضاعةَ من يجوع إلى لبن المرأة، والسِّياق يُنزِل اللَّفظ منزلةَ الصَّريح، فتغيُّر وجهه الكريم صلوات الله عليه وسلامه، وكراهته لذلك الرَّجل، وقوله: «انظُرن مَن إخوانكنَّ» = إنَّما هو للتَّحفُّظ في الرَّضاعة، وأنَّها لا تُحرِّم كلَّ وقتٍ، وإنَّما تُحرِّم وقتًا دون وقتٍ، ولا يفهم أحدٌ من هذا:


(١) في «غريب الحديث» (٢/ ١٤٩).
(٢) كذا في النسخ. وفي «غريب الحديث»: «يشبعه».