للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وممَّا يبيِّن هذا أنَّه - صلى الله عليه وسلم - ذكر الأربعة الَّتي تُبذَل فيها الأموال عادةً لحرص النُّفوس عليها، وهي ما تأخذه الزَّانية والكاهن والحجَّام وبائع الكلب، فكيف يُحمل هذا على كلبٍ لم تجْرِ العادة ببيعه، وتخرج منه الكلاب الَّتي إنَّما جرت العادة ببيعها؟ هذا من الممتنع البيِّن امتناعه. وإذا تبيَّن هذا ظهر فساد ما شبِّه به من نسخ خبث أجرة الحجَّام، بل دعوى النَّسخ فيها أبعد.

وأمَّا إعطاء النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - الحجَّام أجره فلا يعارض قوله: «كسب الحجَّام خبيثٌ»؛ فإنَّه لم يقل: إنَّ إعطاءه خبيثٌ، بل إعطاؤه إمَّا واجبٌ، وإمَّا مستحبٌّ، وإمَّا جائزٌ، ولكن هو خبيثٌ بالنِّسبة إلى الآخذ، وخبثه بالنِّسبة إلى أكله، فهو خبيث الكسب، ولم يلزم من ذلك تحريمه؛ فقد سمَّى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الثُّوم والبصل خبيثينِ مع إباحة أكلهما، ولا يلزم من إعطاء النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - الحجَّام أجرَه حِلُّ أكله فضلًا عن كون أكله طيِّبًا؛ فإنَّه قال: «إنِّي لأُعطي الرَّجلَ العطيَّةَ يخرج بها يتأبَّطُها نارًا» (١). والنَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قد كان يُعطي المؤلَّفةَ قلوبُهم من مال الزَّكاة والفيء مع غناهم وعدمِ حاجتهم إليه؛ ليبذُلوا من الإسلام والطَّاعة ما يجب عليهم بذلُه بدون العطاء، ولا يحلُّ لهم توقُّف بذْلِه على الأخذ، بل يجب عليهم المبادرة إلى بذله بلا عوضٍ.

وهذا أصلٌ معروفٌ من أصول الشَّرع: أنَّ العقد والبذل قد يكون جائزًا أو مستحبًّا أو واجبًا من أحد الطَّرفين، مكروهًا أو محرَّمًا من الطَّرف الآخر، فيجب على الباذل أن يبذل، ويحرم على الآخذ أن يأخذه.

وبالجملة فخبث أجر الحجَّام من جنس خبث أكل الثُّوم والبصل، لكنَّ


(١) أخرجه أحمد (١١٠٠٤) وابن حبان (٣٤١٤) والحاكم (١/ ٤٦) من حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -.