للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وقد عُلِّل التَّحريم بعدَّة عللٍ:

إحداها: أنَّه لا يُقدَر على تسليم المعقود عليه، فأشبهَ إجارةَ الآبق، فإنَّ ذلك متعلِّقٌ باختيار الفحل وشهوته.

الثَّانية: أنَّ المقصود هو الماء، وهو ممَّا لا يجوز إفراده بالعقد، فإنَّه مجهول القدر والعين، وهذا بخلاف إجارة الظِّئر، فإنَّها احتُمِلَت لمصلحة الآدميِّ، فلا يقاس عليها غيرها.

وقد يقال ــ والله أعلم ــ: إنَّ النَّهي عن ذلك من محاسن الشَّريعة وكمالها، فإنَّ مقابلة ماء الفحل بالأثمان، وجَعْلَه محلًّا لعقود المعاوضات ممَّا هو مستقبحٌ مستهجنٌ عند العقلاء، وفاعلُ ذلك عندهم ساقطٌ من أعينهم في أنفسهم. وقد جعل الله سبحانه فِطَرَ عباده لا سيَّما المسلمين ميزانًا للحُسن والقُبح، فما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسنٌ، وما رآه المسلمون قبيحًا فهو عند الله قبيحٌ (١).

ويزيد هذا بيانًا أنَّ ماء الفحل لا قيمةَ له، ولا هو ممَّا يُعاوَض عليه، ولهذا لو نزا فحلٌ لرجلٍ على رَمَكَةِ (٢) غيره، فأولدها، فالولد لصاحب الرَّمكة اتِّفاقًا؛ لأنَّه لم ينفصل عن الفحل إلا مجرَّد الماء، ولا قيمة له، فحرَّمت هذه الشَّريعة الكاملة المعاوضةَ على ضِرابه ليتناوله النَّاس بينهم مجَّانًا، لما فيه من تكثير النَّسل المحتاج إليه، من غير إضرارٍ بصاحب الفحل ولا نقصانٍ من ماله، فمن محاسن الشَّريعة إيجاب بذل هذا مجَّانًا، كما قال


(١) أخرجه أحمد (٣٦٠٠) موقوفًا على ابن مسعود - رضي الله عنه -، وإسناده حسن.
(٢) هي أنثى الفرس (البِرذَونة) التي تُتخذ للنَّسل.