وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي أي: أجعله خاصتي وخلاصتي، أو أجعله خالصاً لنفسي. قال أولاً: ائْتُونِي بِهِ فقط، فلما تبين له حاله وظهر كماله، قال: ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي رُوي أنه لما أراد ان يخرجه أرسل إليه بخلعة يأتى فيها، وكان بين السجن والبلد: أربعة فراسخ، فقال يوسف: لا أخرج من السجن حتى لا يبقى فيه أحد، فأمر الملك بخروج جميع مَن فيه. فلما خرج من السجن اغتسل وتنظف، ولبس ثياباً جدداً، فلما دخل على الملك، قال: اللهم إني أسألك من خيره، وأعوذ بعزتك وقدرتك من شره. ثم سلم عليه ودعا له بالعبرانية، فقال: ما هذا اللسان؟. فقال: لسان آبائي. وكان الملك يعرف سبعين لساناً، فكلمه بها، فأجابه بجميعها، فتعجب منه، فقال: أحب أن أسمع رؤياي، فحكاها، ونعت له البقرات والسنابل وأماكنها، فأجلسه على السرير، وفوض إليه أمره. وهذا معنى قوله تعالى: فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ أي: فلما أتوا به وكلمه وشاهد منه الرشد والدهاء، قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ عندنا مَكِينٌ أي: في مكانه ومنزلة، أَمِينٌ:
مؤتمن على كل شيء، ثم فوض إليه أمر المملكة.
وقيل: توفي قطفير- أي: العزيز- فنَصَّبه منصبه، وزوجه من زليخا بعد أن شاخت، وافتقرت، فدعا الله تعالى فرد عليها جمالها وشبابها، فوجدها عذراء، وولد منها إفرائيم وميشا. ثم قال له الملك: ما ترى نصنع في هذه السنين المخصبة؟.
قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ أي: أرض مصر ألى أمرها. والخزائن: كل ما يخزن فيه طعام ومال وغيرهما. إِنِّي حَفِيظٌ لها ممن لا يستحقها، عَلِيمٌ بوجوه التصرف فيها. قال البيضاوي: ولعله عليه السلام لما رأى أنه يستعمله في أمره لا محالة، آثر ما تعم فوائده وعوائده، وفيه دليل على جواز طلب التولية، وإظهار أنه مستعد لها، والتولي من يد الكافر، إذا علم أنه لا سبيل إلى إقامة الحق وسياسة الخلق إلا بالاستظهار به. وعن مجاهد: ان الملك أسلم على يديه. هـ. قلت: وقد تقدم عن الورتجبي ما يدل عليه.
وقال ابن عطية: وطلب يوسف للعمل إنما هو حسبة منه عليه السلام لرغبته أن يقع العدل، ونحو هذا هو دخول أبى بكر رضى الله عنه في الخلافة، مع نهيه المستشيرَ له من الأنصار عن أن يتأمَّر على اثنين. فجائز للفاضل أن يعمل ويطلب العمل إذا رأى ألا عوض منه. هـ. وفي «الاكتفاء في أخبار الخلفاء» : أن عمر أراد أبا هريرة على العمل، فامتنع، فقال له: أوليس يوسف خيراً منك، وقد طلب العمل؟ فقال: يوسف نبى بن نبي، وأنا ابن أميمَةَ، فأنا أخاف ثلاثاً واثنين: أن أقول بغير علم، وأقضي بغير عدل، وأن يضرب ظهري، ويشتم عرضي، ويؤخذ مالي. هـ.