للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ أي: ومثل ذلك الصنع الجميل الذي صنعنا بيوسف مكناه فِي الْأَرْضِ أرض مصر، يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ: ينزل من بلادها حيث يريد هو، أو ينزل منها حيث نريد «١» ، نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ في الدنيا والآخرة، وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ، بل نوفي أجورهم عاجلاً وآجلاً. ويوسف أفضلهم في زمانه، فمكَّنه الله من أرض مصر، حتى ملكها بأجمعها وذلك أنه لما فوض إليه الملك اجتهد في جمع الطعام وتكثير الزراعات، حتى دخلت السنون المجدبة، وعم القحط مصر والشام، ونواحيهما، وتوجه الناس إليه، فباعهم في السنة الأولى بالدراهم والدنانير حتى لم يبق لهم منها شيء، ثم في السنة الثانية بالحلي والحلل، ثم في السنة الثالثة بأمتعة البيوت، ثم في الرابعة بالدواب، ثم في الخامسة بالرباع والعقار، ثم في السادسة بأولادهم، ثم في السابعة برقابهم حتى استرقهم جميعا، ثم عرض الأمر على الملك فقال: الرأي رأيك. فأعتقهم ورد إليهم أموالهم.

قال تعالى: وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ الشرك والفواحش، فهو أحق بالرغبة وأولى بالطلبة. وقال ابن جزي في قوله: نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ: الرحمة هنا المراد بها الدنيا، وكذلك الأجر في قوله: وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ بدليل قوله بعد ذلك: وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ فأخبر تعالى أن رحمته في الدنيا يصيب بها من يشاء من مؤمن وكافر، وطائع وعاص، وأن المحسنين لا بد من أجرهم في الدنيا. فالأول في المشيئة، والثاني واقع لا محالة. ثم أخبر أن أجر الآخرة خير من ذلك كله لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ، وفيه إشارة إلى أنَّ يوسف عليه السلام جمع الله له بين الدنيا والآخرة. هـ.

الإشارة: في الآية ثلاث فوائد: الأولى: مدح التأني في الأمور، ولو كانت جلالية لأنه يدل على كمال العقل والرزانة، وطمأنينة القلب. وذم العجلة لأنها من خفة العقل والطيش، وعدم الصبر والاحتمال. يؤخذ ذلك من تأني يوسف عليه السلام في السجن بعد طول مدته. وفي الحديث: «التَأَنِّي مِن اللَّهِ، والعَجَلَةُ من الشَّيطَانِ» «٢» .

الثانية: عدم تزكية النفس، ودوام اتهاما، ولو بلغت من التصفية ما بلغت. وقد تقدّم في قوله تعالى: وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْها «٣» ، وقال بعض الصوفية: وكيف يصح لعاقل أن يزكي نفسه والكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم يقول: إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ، والنفوس ثلاثة: أمّارة، ولوّامة، ومطمئنة. وزاد بعضهم: اللهامة من قوله تعالى: فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها «٤» ..


(١) هذا المعنى على قراءة (نشاء) بالنون، وبها قرأ ابن كثير، انظر الإتحاف (٢/ ١٤٩) .
(٢) أخرجه الترمذي فى (كتاب البر والصلة، باب ما جاء فى التأنى والعجلة) بلفظ «الأناة» ، من حيث سهل بن سعيد الساعدي، وأخرجه- بلفظ المفسر، البيهقي فى: شعب الايمان، من حديث أنس. وضعف السيوطي حديث البيهقي. انظر الجامع الصغير (ح/ ٣٣٩٠)
(٣) من الآية ٧٠ من سورة الأنعام. [.....]
(٤) الآية: ٨ من سورة الشمس.

<<  <  ج: ص:  >  >>