لباطن الأمر حافظين، فلا ندري أسرق، أو أحد دسه في وعائه؟ أو ما كنا حين أعطيناك العهد حافظين للغيب، عالمين بالقدر المغيب، وأنك تصاب به كما أصبت بأخيه. وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وهي القرية التي لحقهم فيها المنادي، أي: أرسل إليهم واسألهم عن القصة إن اتهمتنا. وَسل أيضاً الْعِيرَ: أهل العير، الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها، والعير: جماعة الإبل. وَإِنَّا لَصادِقُونَ فيما أخبرناك به. هذا تمام وصية كبيرهم. فلما رجعوا إلى أبيهم، وقالوا له ما قال لهم كبيرهم،.
قالَ لهم أبوهم: بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً أي: زينت لكم أمراً فصنعتموه، وإلا فمن أين يدري الملك أن السارق يُؤخذ في السرقة، إذ ليست بشريعته، فَصَبْرٌ جَمِيلٌ أي: فأمري صبر جميل، عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً بيوسف وبنيامين، وأخيهما الذي بقي بمصر إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ بحالي وحالهم، الْحَكِيمُ في تدبيره. رُوي أن عزرائيل دخل ذات يوم على يعقوب- عليهما السلام- فقال له يعقوب: جئت لقبض روحي، أو لقبض روح أحد من أولادي وأهلي؟. قال: إنما جئت زائراً، فقال له: أقسمت عليك بالله إلا ما أخبرتني، هل قبضت روح يوسف؟ فقال: لا، بل هو حي سَوِيّ، وهو ملك وله خزائن، وجنود وعبيد، وعن قريب يجمع الله شملك به. هـ.
الإشارة: فلما استيأس القلب من الدنيا، والرجوع إليها، وقطع يأسه من حظوظها وهواها، خلصت له المناجاة، وصفت له أنوار المشاهدات، وأنواع المكالمات، والقلب هو كبير الأعضاء وملكها، فيقول لها: ألم تعلموا أن الله قد أخذ عليكم موثقاً ألا تعصوه ولا تُخالفوه، ومن قبل هذا، وهو زمان البطالة، قد فرطتم في عبادته، فلن أبرح أرض العبودية حتى يأذن لي في العروج إلى سماء شهود عظمة الربوبية، أو يحكم لي بالوصال، وهو خير الحاكمين. فإن وقعت من الجوارح هفوة فيقال لها: ارجعوا إلى أبيكم- وهو القلب- فقولوا: إن ابنك سرق، أي: تعدى وأخذ ما ليس له من الهوى فيما ظهر لنا، وما شهدنا إلا بما علمنا، فرب معصية في الظاهر طاعة في الباطن، واسأل البشرية التي كنا فيها والخواطر التي أقبلنا على المعصية فيها، فيقول القلب: بل زينت لكم أنفسكم أمر الهوى، فدواؤكم الصبر الجميل، والتوبة للعظيم الجليل، عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً، فنصرفهم في طاعة الله ومرضاته. والله تعالى أعلم بأسرار حِكَم كتابه، فعلم الإشارة يقبل مثل هذا وأكثر. وإياك والانتقاد فقد قالوا في باب الإشارة أرق من هذا وأغرب. وبالله التوفيق.