فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أي: المبشر، وهو: يهوذا. رُوي أنه قال: كنتُ أحزنْتُه بِحَمل قميصه المُلَطَّخ بالدم إليه، اليوم أفرحُه بحمل هذا إليه. وفي رواية عنه قال: إني ذهبت إليه بقميص التَّرْحَة، فدعوني أذهب إليه بقميص الفرحة. فلما وصل إليه أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ طرح البشيرُ القميصَ على وجه يعقوب، أو: القاه يعقوبُ بنفسه على وجهه، فَارْتَدَّ بَصِيراً بقدرة الله وبركة القميص. قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ من حياة يوسف، وإنزال الفرج.
قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ، وقد اعترفنا بذنوبنا، وسألنا المغفرة. قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، أخره إلى السَّحَر، أو إلى صلاة الليل، أو إلى ليلة الجمعة، تحرياً لوقت الإجابة، أو إلى أن يتحلّل لهم من يوسف، فإن عفو المظلوم شرط في المغفرة، ويؤيده ما رُوي أنه لما اجتمع به، وتحلل منه، استقبل يعقوبُ القبلة قائماً يدعو، ويوسفُ خلفه يؤمن، وقاموا خلفهما أذلةً خاشعين، حتى نزل جبريل وقال: إن الله قد أجاب دعوتك في أولادك، وعقد مواثيقهم بعدك على النبوة. وهو، إن صح، دليل نبوتهم، وأن ما صدر منهم كان قبل نبوتهم، قاله البيضاوي.
الإشارة: اعلم أن الحق- جل جلاله- جعل للبشرية عَيْنَين حسيين، تبصر بهما الحسيات، وجعل للقلب عينين معنويين يرى بهما المعاني. فالأول: يسمى البصر، والثاني: البصيرة. فأحد عيني القلب تبصر أنوار الشريعة، والأخرى تبصر أسرار الحقيقة. وقد يغشى القلب ظلمةُ الكفر، فتغطيهما معاً، وهو: عمى البصيرة. وقد يغشاه ظلمة المعاصي، واتباع الحظوظ والهوى، فتعمى عين الحقيقة، وتضعف عين الشريعة، ودواؤهما: إلقاء قميص المعرفة على وجه عين الحقيقة، وجلباب العصمة على عين الشريعة، فيرجع القلب بصيراً. ولا بد من صُحبة شيخ عارف يعطيه هذا القميص، ويقول: اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه بصيرتكم، تأتي بصيرة عارفة، فإذا قرب منها هذا القميص هبَّ عليها نسيم الوصال، وهاج عليها الوجدُ والحالُ. وأنشدت بلسان المقال:
سُوَيْداء قََلْبِي أَصْبَحَت حَرماً لَكُم ... تَطُوفُ بها الأسرارُ من عَالَم اللُّطف
وسائلُ ما بينَ المُحبِّين أَصْبَحَتْ ... تَجِلُّ عن التَّعْرِيفِ والرَّسم والعُرْفِ