للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

جزاء لمكرهم، وإبطالاً له، وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ في العظم والشدة لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ الثوابت لو زالت تقديراً، أو ما كان مكرهم لتزول منه الجبال، أي: الشرائع والنبوات الثابتة كالجبال الرواسي. والمعنى على هذا تحقير مكرهم لأنه لا تزول منه تلك الجبال الثابتة الراسخة، أو: وإن مكرهم لَتزولُ منه الجبال من شدته، ولكن الله عصم ووقى.

وقيل: الآية متصلة بما قبلها، أي: وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم، ومكروا مكرهم في إبطال الحق.

فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ، يعني: وعد النصر على الأعداء. وقدَّم المفعول الثاني، والأصل:

مخلف رسله وعده، فقدَّم الوعد ليُعلم أنه لا يخلف الوعد أصلاً على الإطلاق، ثم قال: رُسُلَهُ ليعلم أنه إذا لم يخلف وعد أحد من الناس، فكيف يخلف وعد رسله وخيرة خلقه؟! فقدَّم الوعد أولاً بقصد الإطلاق، ثم ذكر الرسل لقصد التخصيص. إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ: غالب لا يماكر، قادر لا يدافع، ذُو انتِقامٍ لأوليائه من أعدائه.

يظهر ذلك يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ، أو اذكر يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ، فتبدل أرض الدنيا يوم القيامة بأرض بيضاء عفراء «١» ، كقُرْصَة النقِيّ «٢» ، كما فى الصحيح «٣» . وَتبدل السَّماواتُ بأن تنشق وتُطوى كطي السجل للكتب، ويبقى العرش بارزاً، وهو سماوات الجنة.

قال البيضاوي: والتبديل يكون في الذات، كقوله: بدلت الدراهم بالدنانير، وعليه قوله: بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها «٤» ، وفي الصفة، كقولك: بدلت الحلقة خاتماً، إذا أذبتها وغيرت شكلها. وعليه قوله: يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ «٥» . والآية تحتملها، فعن علي رضى الله عنه: تبدل أرضاً من فضة وسموات من ذهب، وعن ابن عباس- رضى الله تعالى عنهما-: هي تلك الأرض، وإنما تغير صفاتها، ويدل عليه ما روى أبو هريرة رضى الله عنه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرض فتنبسط، وتُمَدّ مد الأديم العكَاظيّ «لا ترى فيها عِوجاً ولا أمتا» «٦» .

قال ابن عطية: وأكثر المفسرين على أن التبديل يكون بأرض بيضاء عَفراءَ، لم يُعْصَ اللهُ فيها، ولا سُفِكَ فيها دم، وليس فيها مَعْلم لأحد. ورُوي ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المُؤْمِنُ في وَقْتِ التبديلِ في ظل العرْشِ» . وروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الناسُ، وقتَ التبديل، على الصِّرَاط» «٧» . ورُوي أنه قال: «٨» «الناس حينئذٍ أضْيَافُ الله فلا يُعجزهم ما


(١) العفرة: بياض ليس بالناصع.. انظر النهاية (عفر) .
(٢) قرصة النّقىّ: الدقيق النقي من الغش والنخال انظر فتح الباري (١١/ ٣٨٣) .
(٣) قال صلى الله عليه وسلم: (يُحشر الناس يوم القيامةِ على أرض بيضاء عفراء، كقُرْصَة النقِيّ، ليس فيها علم لأحد» . أخرجه البخاري فى (الرقاق، باب يقبض الله الأرض يوم القيامة) . ومسلم فى (صفات المنافقين، باب فى البعث والنشور) من حديث سهل بن سعد الساعدي.
(٤) من الآية ٥٦ من سورة النساء.
(٥) من الآية ٧٠ من سورة الفرقان. [.....]
(٦) جزء من حديث الصور المشهور المروي عن أبى هريرة.
(٧) أخرجه مسلم فى (صفات المنافقين وأحكامهم، باب فى البعث والنشور) من حديث السيدة عائشة- رضى الله عنها.
(٨) أخرجه بنحوه ابن أبى حاتم فى تفسيره (٧/ ٢٢٥٣) من حديث أبى أيوب الأنصاري. وانظر تفسير ابن كثير (٢/ ٥٤٤) .

<<  <  ج: ص:  >  >>