الملائكة، فركّب الله تعالى فيهما الشهوة، وأمرهما أن يحكما في الأرض بين الناس بالحق، ونهاهما عن الشرك والقتل بغير الحق، والزنا وشرب الخمر، فكانا يقضيان بين الناس يومهما، فإذا أمسيا ذكرا اسم الله الأعظم وصعدا إلى السماء، فاختصمت إليهما ذات يوم امرأة يقال لها الزهرة: وكانت من أجمل النساء من أهل فارس، فأخذت بقلبيهما، فراوداها عن نفسها، فأبت، ثم عاودت في اليوم الثاني، ففعلا مثل ذلك فأبت، وقالت: إلا أن تعبدا ما أعبد، وتصليا لهذا الصنم، وتقتلا النفس وتشربا الخمر، فأبيا هذه الأشياء، وقالا: إن الله نهانا عنها، فانصرفت، ثم عادت فى اليوم الثالث، فراوداها، فعرضت عليهما ما قالت بالأمس، فقالا: الصلاة لغير الله ذنب عظيم، وأهونُ الثلاثة شرب الخمر، فشربا، وانتشيا، ووقعا بالمرأة، فلما فرغا رآهما إنسان فخافا أن يظهر عليهما فقتلاه.
وفي رواية عن سيدنا علي- كرّم الله وجهه- أنه قال:(قالت لهما: لن تدركاني حتى تخبراني بالذي تصعدان به إلى السماء، فقالا: باسم الله الأعظم، فعلماها ذلك، فتكلمت به، وصعدت إلى السماء فمسخها الله كوكباً) . ولذلك كان عليه الصلاة والسلام إذا رأى سهيلاً قال:«لَعَنَ اللهُ سُهيلاً كَانَ عَشَّاراً بِاليمن، ولَعَنَ اللهُ الزهْرةَ، وقال: إِنَها فتنت ملكين» .
قلت: قصة هاروت وماروت ذكرها المنذري في شرب الخمر، وقال في حديثها: رواه أحمد وابن حبان في صحيحه من طريق زهير بن محمد، وقد قيل: إن الصحيح وقفه على كعب. هـ. وقال ابن حجر: قصة هاروت وماروت جاءت بسند حسن، خلافاً لمن زعم بطلانها كعياض ومن تبعه.
وتمام قصتهما: أنهما لما قارفا الذنب وجاء المساء همّا بالصعود، فلم تطاوعهما أجنحتهما، فعلما ما حلّ بهما، فقصدا إدريس عليه السلام، فأخبراه، وسألاه الشفاعة إلى الله تعالى فشفع فيهما، فخيّرهما الله تعالى بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا لانقطاعه، فهما يعذبان في بئر ببابل، منكسان معلقان بالسلاسل من أرجلهما، مزرقة أعينهما، ليس بينهما وبين الماء إلا قدر أربعة أصابع، وهما يعذبان بالعطش «١» . هـ.
فإن قلت: الملائكة معصومون فكيف يصح هذا من هاروت وماروت؟ قلنا: لما ركب الله فيهما الشهوة انسلخا من حكم المَلَكيَّة إلى حكم البشرية ابتلاء من الله تعالى لهما، فلم يبق لهما حكم الملائكة من العصمة.
(١) أعلّ أهل العلم بالحديث هذه الروايات، وحكم بوضعها ابن الجوزي فى الموضوعات، وقال القاضي عياض: لم يرد فى ذلك شىء أصلا لا سقيم ولا صحيح. وردّ القصة جل المفسرين، وقال الحافظ ابن كثير: ظاهر سياق القرآن إجمال القصة من غير بسط ولا إطناب فيها. فنحن نؤمن بما ورد فى القرآن على ما أراده الله تعالى. انظر فى الموضوع: الشفا للقاضى عياض، وتعليق الشيخ أحمد شاكر على مسند الإمام أحمد، وتعليقه على تفسير الطبري، وكتاب الاسرائيليات والموضوعات لأبى شهبة رحمه الله-.