للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قلت: ضمَّن ركوب السفينة معنى الدخول فيها، فعداه بفي، وقد تركه على أصله في قوله: لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً «١» .

يقول الحق جلّ جلاله: فَانْطَلَقا أي: موسى والخضر، وسكت عن الخادم لكونه تبعًا، وقيل: إن يوشع لم يصحبهما، بل رجع، فصارا يمشيان على ساحل البحر، فمرت بهم سفينة، فكلموهم أن يحملوهم، فعرفوا الخضر، فحملوهم بغير نَوْل، فلما لَجَّجُوا البَحْرَ أخذ الخضرُ فأسًا فخرق السفينة، فقلع لوحًا أو لوحين مما يلي الماء، فحشاها موسى بثوبه، وقالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها أو: ليَغرَق أهلُها «٢» ، لَقَدْ جِئْتَ أي: أتيتَ وفعلت، شَيْئاً إِمْراً أي: عظيمًا هائلاً، يقال: أَمِر الأمرُ: عظم، قالَ الخضر: أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً تذكيرًا لما قاله له من قبلُ، وإنكارًا لِعدم الوفاء بالعهد، قالَ موسى عليه السلام: لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ أي:

بنسياني، أو بالذي نسيته، وهو وصيته بأن لا يسأله عن حكمة ما صدر عنه من الأفعال الخفية الأسباب قبل بيانه، أراد: نسي وصيته، ولا مؤاخذة على الناسي، وفي الحديث: «كانت الأولى مِن مُوسى نسيانًا» . أو: أراد بالنسيان الترك، أي: لا تُؤاخذني بما تركت من وصيتك أول مرة. وَلا تُرْهِقْنِي أي: لا تُغْشِنِي ولا تُحَمِّلْنِي مِنْ أَمْرِي، وهو اتباعك، عُسْراً أي: لا تعَسِّرْ عليّ في متابعتك، بل يسرها عليّ بالإغضاء والمسامحة.

فَانْطَلَقا أي: فقبل عذره فخرجا من السفينة فانطلقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قيل: كان يلعب مع الغلمان ففتَلَ عنقه، وقيل: ضرب رأسه بحجر، وقيل: ذبحه، والأول أصح لوروده في الصحيح، رُوي أن اسم الغلام «جيسور» بالجيم، وقيل: بالحاء المهملة، فإِن قلت: لِمَ قال خَرَقَها بغير فاءٍ، وقال فَقَتَلَهُ بالفاء؟ فالجواب:

أن «خَرَقَها» : جواب الشرط، وقتله: من جملة الشرط، معطوفًا عليه، والجزاء هو قوله: (قالَ أَقَتَلْتَ) ، فإن قلت: لِمَ خولف بينهما؟ فالجواب: أن خرق السفينة لم يتعقب الركوب، وقد تعقب القتل لِقاء الغلام. هـ. وأصله للزمخشري.

وقال البيضاوي: ولعل تغيير النظم بأن جعل خرقها جزاء، واعتراض موسى عليه السلام مستأنفًا في الأولى، وفي الثانية فَقَتَلَهُ من جملة الشرط، واعتراضه جزاء لأن القتل أقبح، والاعتراض عليه أدخل، فكان جديرًا بأن يجعل عمدة الكلام، ولذلك وصله بقوله: لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً أي: منكرًا. هـ. وناقشه أبو السعود بما يطول ذكره.


(١) من الآية ٨ من سورة النحل.
(٢) بفتح الياء والراء، على الغيب، وأهلها: بالرفع على الفاعلية، وهى قراءة حمزة والكسائي، وقرأ الباقون بضم التاء وكسر الراء، مخففة مع سكون الغين على الخطاب، وأهلها بالنصب على المفعولية.. انظر الإتحاف (٢/ ٢٢١) .

<<  <  ج: ص:  >  >>