للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قالَ موسى عليه السلام في اعتراضه: أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً «١» : طاهرة من الذنوب، وقرئ بغير ألف مبالغةً، بِغَيْرِ نَفْسٍ أي: بغير قتلِ نفسٍ محرمةٍ، فيكون قصاصًا. وتخصيص نفي هذا القبيح بالذكر من بين سائر القبيحات من الكفر بعد الإيمان، والزنا بعد إحصان لأنه أقرب إلى الوقوع نظرًا لحال الغلام. لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً أي: مُنكرًا، قيل: أنكرُ من الأول، إذ لا يمكن تداركه، كما يمكن تدارك الأول بالسد ونحوه. وقيل:

«الإمْر» أعظم لأن قتل نفس واحدة أهون من إغراق أهل السفينة.

قالَ له الخضرُ عليه السلام: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً، زاد «لَكَ» لزيادة تأكيد المكافحة بالعتاب على رفض الوصية وقلة التثبت والصبر، لما تكرر منه الإنكار، ولم يَرْعَوِ بالتذكير، حتى زاد في النكير في المرة الثانية بذكر المنكر. قالَ موسى عليه السلام: إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها بعد هذه المرة فَلا تُصاحِبْنِي إن سألتُ صُحبتَكَ، وقرأ يعقوب: «فلا تصحبني» رباعيًا، أي: لا تجعلني صاحبًا لك، قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً أي: قد أعذرتَ ووجدت مِنْ قِبَلِي عذرًا في مفارقتي، حيث خالفتك ثلاث مرات.

وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «يرحم الله أَخِي مُوسَى، استحيا، فقال ذلك، لو لَبِثَ مَعَ صَاحِبِهِ لأبْصرَ أَعْجَبَ الأعَاجِيب» «٢» .

وفي البخاري: «وددنا لو صبر موسى، حتى يقص الله علينا من أمرهما» «٣» .

فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ، هي أنطاكية، وقيل: أَيْلة، وقيل الأبُلة، وهي أبعد أرض الله من السماء، وقيل: برقة، وقال أبو هريرة وغيره: هي بالأندلس. ويُذكر أنها الجزيرة الخضراء. قلت: وهي التي تسمى اليوم طريفة، وأصلها بالظاء المشالة. وذلك على قول إن مجمع البحرين عند طنجة وسبتة. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «كانوا أهل قرية لِئامًا» . وقال قتادة: شر القرى التي لا يُضاف فيها الضيف، ولا يعرف لابن السبيل حقه.

ثم وصف القرية بقوله: اسْتَطْعَما أَهْلَها أي: طلبا منهم طعامًا، ولم يقل: استطعماهم، على أن يكون صفة لأهل لزيادة تشنيعهم على سوء صنيعهم، فإن الإباء من الضيافة، مع كونهم أهلها قاطنين بها، أشنع وأقبح.

رُوي أنهما طافا بالقرية يطلبان الطعام، فلم يطعموهما. واستضافاهم فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما بالتشديد، وقرئ بالتخفيف. يقال: ضافه: إذا كان له ضيفًا، أضافه وضيّفه: أنزله ضيفًا. وأصل الإضافة: الميل، من: ضاف السهم


(١) قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر: «زاكية» بألف بعد الزاى، وتخفيف الياء، اسم فاعل من «زكا» ، وقرأ الباقون: «زكية» بتشديد الياء من غير ألف ... انظر الإتحاف ٢/ ٢٢١.
(٢) أخرجه، بنحوه، أبو داود فى (الحروف والقراءات ح ٢٩٨٤) ، وأصل الحديث فى صحيح مسلم فى (الفضائل، باب من فضائل الخضر) .. فى سياق طويل.
(٣) أخرجه البخاري فى (التفسير، سورة الكهف) .

<<  <  ج: ص:  >  >>