للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قلت: (أَلَّا يَرْجِعُ) : «أن» محففة، لأنَّ الناصبة لا تقع بعد أفعال اليقين، ومن قرأ بالنصب جعل الرؤية بصرية.

يقول الحق جلّ جلاله، مُنكرًا على عبدة العجل ومقبحًا لرأيهم: أَفَلا يَرَوْنَ أي: أفلا يتفكرُ هؤلاء الضالون المضلون فيعلمون أن الأمر والشأن: أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ العجل كلامًا، ولا يرد عليها جوابًا، وإنما هو جماد لا روح فيه؟ فكيف يتوهمونه أنه إله؟ وتعليق الإبصار بما ذكر مع كونه عدميًا للتنبيه على كمال ظهوره، المستدعي لمزيد تشنيعهم وتركيك عقولهم. وَهو أيضًا لا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً أي: أفلا يرون أيضًا أن العجل لا يقدر أن يدفع عنهم ضرًا، أو يجلب لهم نفعًا؟ أو لا يقدر على أن يضرهم إن لم يعبدوه، أو ينفعهم إن عبدوه.

وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ أي: والله لقد نصحهم هارون ونبههم على الحق، من قبل رجوع موسى عليه السلام إليهم، وقال لهم: يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ أي: وقعتم في الفتنة بالعِجْل أو ضللتم به، والمعنى: إنما فعل بكم الفتنة، لا الإرشاد إلى الحق، وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ وحده، لا العِجْل، أرشدهم إلى الحق بعد أن زجرهم عن الباطل. والتعرض لعنوان الرحمانية للاعتناء باستمالتهم إلى الحق المُفضي إلى الرحمة الشاملة، أي: إن ربكم الذي يستحق ان يُعبد هو الرحمن لا غير. فَاتَّبِعُونِي على الثبات على الدين، وَأَطِيعُوا أَمْرِي من ترك عبادة ما علمتم شأنه.

قالُوا في جواب هارون عليه السلام: لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ أي: لن نزال على عبادة العجل مقيمين حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى، جعلوا رجوعه عليه السلام غاية لعكوفهم على عبادة العجل، لكن لا على طريق الوعد بتركها عند رجوعه، بل بطريق التعلل والتسويف، وقد دسُّوا تحت ذلك أنه عليه السلام لا يرجع بشيء مبين لإبطالها، تعويلاً على مقالة السامري.

روي أنهم، لما قالوا ذلك، اعتزلهم هارون عليه السلام في اثني عشر ألفًا ممن لم يعبد العجل، فلما رجع موسى وسمع الصياح والجَلَبة «١» ، وكانوا يرقصون حول العجل، قال للسبعين الذين كانوا معه: هذا صوت الفتنة، فلما وصل إليهم قال لهم ما قال من قوله: (أَلَمْ يَعِدْكُمْ....) الخ. وسمع منهم ما قالوا من قولهم: (ما أَخْلَفْنا ... ) الخ. فلما رأى هارونَ أخذ شعره بيمينه، ولحيته بشماله، غضبًا، قالَ يا هارُونُ، وإنما جرده من الواو لأنه استئناف بياني، كأنه قيل: ماذا قال موسى لهارون حين سمع جوابهم له؟ وهل رضي بسكوته بعد ما شهد منهم ما شهد؟ فقيل:

قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا بعبادة العجل، وبلغوا من المكابرة إلى أن شافهوك بتلك المقالة الشنعاء، أَلَّا تَتَّبِعَنِ أي: أن تتبعني. على أن «لا» مزيدة، أيْ: أيّ شيء منعك، حين رأيت ضلالتهم، من أن


(١) فى الأصول: والجبلة.

<<  <  ج: ص:  >  >>