تتبعنى فيما أمرتك، وتعمل بوصيتي فتقاتلهم بمن معك؟. قال ابن عطية: والتحقيق: أن «لا» غير مزيدة، ويُقدر فعل، أي: ما منعك مجانبتهم وسوّل لك ألا تتبعن. هـ. قلت: وفيه نظر لأن مجانبة هارون عليه السلام للقوم كانت حاصلة، وإنما أنكر عليه عدم مقاتلتهم، أو عدم لحوقه ليخبره، فتأمله. وقيل: المعنى: ما حملك على ألا تتبعن، فإن المنع من الشيء مستلزم للحمل على مقابله، وقيل: ما منعك أن تلحقني وتُخبرني بضلالهم، فتكون مفارقتك زجرًا لهم، وهذا أظهر.
أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي بالصلابة في الدين والمحاماة عليه، فإن قوله:(اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي) متضمن للأمر بهما حتمًا، فإن الخلافة لا تتحقق إلا بمباشرة الخليفة ما كان يباشره المستخلف لو كان حاضرًا، والهمزة للإنكار، والفاء للعطف، أي: أخالفتني فعصيت أمري.
لَ يَا بْنَ أُمَ
، خص الأم بالذكر استعطافًا لحقها، وترقيقًا لقلبه، لا لما قيل من أنه كان أخاه لأمه، فإن الجمهور على أنهما شقيقان. قال له: تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي
أي: بشعر رأسي. وقد كان عليه السلام أخذ بهما كما تقدم، من شدة غيظه وفرط غضبه لله، وكان حديدًا متصلبًا في كل شيء، فلم يتمالك حين رآهم يعبدون العجل، حتى فعل ما فعل. ثم اعتذر له أخوه بقوله: نِّي خَشِيتُ
إن قاتلتُ بعضهم ببعض وتفرقوا، نْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ
برأيك، مع كونهم أبناء رجل واحد، كما يُنبئ عنه ذكرهم بذلك العنوان دون القوم ونحوه. وأراد عليه السلام بالتفريق ما يستتبعه القتال من التفريق: الذي لا يُرى بعده اجتماع، فخشيتُ أن تقول:
فرقت بينهم، لَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي
أي: قوله: (اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ..) الخ، يعني: إني رأيت أن الأصلح هو في حفظ الدماء والمداراة معهم، إلى أن ترجع إليهم، فلذلك استأنيتك لتكون أنت المتدارك للأمر بما رأيت، لا سيما وقد كانوا في غاية القوة، ونحن على القلة والضعف، كما يُعرب عنه قوله: إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي «١» . والله تعالى أعلم.
الإشارة: كل من اعتمد على غير الله، أو مال بمحبته إلى ما سوى الله، فهو في حقه عجل بني إسرائيل، فيقال له: كيف تركن إليه وهو لا يملك لك ضرًا ولا نفعًا، وإنما فُتنت به عن السير إلى ربك، وانطمست به حضرة قدسك، فربك الرحمن الكريم المنان، فاتبع ما أمرك به من الطاعات، وكن عبدًا له في جميع الحالات، تكن خالصًا لله، حرا مما سواه. وبالله التوفيق.