للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولمّا برهن على وحدانيته تعالى في ملكه بأنه تعالى خلق جميع المخلوقات على منهاج الحكمة، وأنهم قاطبة تحت ملكه وقهره، وأنَّ عباده مذعنون لطاعته، ومثابرون على عبادته، ومنزهون له عن كل ما لا يليق بشأنه، أنكر على من أشرك معه بعد هذا البيان، فقال: أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً يعبدونها مِنَ الْأَرْضِ أي: اتخذوها من جنس الأرض، أحجارًا وخشبًا، هُمْ يُنْشِرُونَ أي: يبعثون الموتى. وهذا هو الذي يدور عليه الإنكار والتجهيل والتشنيع، لا نفس الاتخاذ، فإنه واقع لا محالة، أي: بل اتخذوا آلهة من الأرض، هم مع حقارتهم، ينشرون الموتى، كلا.. فإن ما اتخذوها آلهة بمعزل من ذلك، وهم، وإن لم يقولوا بذلك صريحًا، لكنهم حيث ادعوا لها الألوهية، فكأنهم ادعوا لها الإنشار، ضرورة لأنه من خصائص الإلهية، ومعنى التخصيص في تقديم الضمير في:

هُمْ يُنْشِرُونَ: التنبيه على كمال مباينة حالهم للإنشار، الموجبة لمزيد الإنكار، كما في قوله تعالى: أَفِي اللَّهِ شَكٌّ «١» . وفي قوله تعالى: أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ «٢» ، فإنَّ تقديم الجار والمجرور للتنبيه على كمال مباينة أمره تعالى لأن يشك فيه ويستهزأ به.

ثم أبطل الاشتراك في الألوهية، فقال: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ أي: لو كان في السماوات والأرض آلهة غير الله، كما هو اعتقادهم الباطل، لَفَسَدَتا أي: لفسد نظامهما بما فيهما، لوجود التمانع، كعادة الملوك، أو لبطلتا بما فيهما، ولم يوجد شيء منهما للزوم العجز لهما، بيان ذلك: أن الألوهية مستلزمة للقدرة على الاسْتِبْدَادِ بالتصرف فيهما على الإطلاق، تغييرًا وبديلاً، وإيجادًا وإعدامًا، وإحياء وإماتة، فبقاؤهما على ما هما عليه من غير فساد، إما بتأثير كل منها، وهو محال لاستحالة وقوع الأثر الواحد بين مؤثرين، وإما بتأثير واحد منها، فالباقي بمعزل عن الإلهية، والمسألة مقررة في علم الكلام.

و (إِلَّا) : صفة لآلهة، كما يُوصف بغير، ولمَّا كانت حرفًا، ظهر إعرابها في اسم الجلالة، ولا يصح رفعه على البدل لعدم وجود النفي. ثم قال تعالى: فَسُبْحانَ اللَّهِ أي: فسبحوا سُبحان الله اللائق به، ونزهوه عما لا يليق به من الأمور، التي من جملتها: أن يكون له شريك في الألوهية. وإيراد الجلالة في موضع الإضمار، حيث لم يقل فسبحانه للإشعار بعلية الحكم، فإن الألوهية مناط لجميع صفات كماله، التي من جملتها: تنزهه تعالى عما لا يليق به، ولتربية المهابة وإدخال الروعة. ثم وصفه بقوله: رَبِّ الْعَرْشِ، وخصه بالذكر، مع كونه رب كل شيء لعظم شأنه لأنَّ الأكوان في جوفه كلا شيء، أي: تنزيهاً له عما يصفونه عن أن يكون من دونه آلهة.

ثم بيَّن قوة عظمته وعز سلطانه القاهر، فقال: لاَ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ أي: لا يمكن لأحد من مخلوقاته أن يناقشه أو يسأله عما يفعل هيبةً وإجلالاً، وَهُمْ يُسْئَلُونَ أي: وعباده يُسألون عما يفعلون، نقيرًا وقطميرًا لأنهم مملوكون له تعالى، مستعبدون، ففيه وعيد للكفرة، فالآية تتميم لقوله: (لاعِبِينَ) ، بل خلقنا الأشياء كلها


(١) من الآية ١٠ من سورة إبراهيم.
(٢) من الآية ٦٥ من سورة التوبة.

<<  <  ج: ص:  >  >>