للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لحكمة، فمنها ما أدركتم حكمته، ومنها ما غاب عنكم، فكِلُوا أمره إلى الله، ولا تسألوه عما يفعل، فإنه لا يُسأل عن فعله، وأنتم تُسألون.

ثم قال تعالى: أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً، هو إضراب وانتقال من إظهار بطلان كون ما اتخذوه آلهة بإظهار خلوها من خصائص الألوهية، التي من جملتها إنشار الموتى، وإقامة البرهان القاطع على استحالة تعدد الإله، إلى إظهار بُطلان اتخاذهم تلك الآلهة، مع عرائها عن تلك الخصائص، وتبكيتهم بإلجائهم إلى إقامة البرهان على دعواهم الباطلة. والهمزة: لإنكار ما اتخذوه واستقباحه، أي: بل اتخذوا من دونه- أي: متجاوزين إياه تعالى، مع ظهور شؤونه الجليلة الموجبة لتفرده بالألوهية- آلهة، مع ظهور خلوهم عن خصوص الإلهية بالكلية.

قُلْ لهم، بطريق التبكيت: هاتُوا بُرْهانَكُمْ على ما تَدَّعونَه، من جهة العقل والنقل فإنه لا صحة لقول لا دليل عليه في الأمور الدينية، لا سيما في هذا الأمر الخطير، فإن بُهتوا فقل لهم: هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي أي: بهذا نطقت الكتب السماوية قاطبة، وشهدت به سُنَّة الرسل المتقدمة كافة. فهذا الوحي الوارد في شأن التوحيد المتضمن للبرهان القاطع ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ من أمتي، أي: عظتهم، وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي من الأمم السالفة، أي: بهذا أمَرنا ربُنا ووعظنا، وبه أمر مَنْ قبلنا، يعني: انفراده سبحانه بالألوهية واختصاصه بها.

وقيل: المعنى: هذا كتاب أُنزل على أمتي، وهذا كتاب أُنزل على أمم الأنبياء- عليهم السلام- قبلي، فانظروا:

هل في واحد منها غير الأمر بالتوحيد والنهي عن الإشراك، ففيه تبكيت لهم. بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ أي: لا يفهمونه، ولا يميزون بينه وبين الباطل، فهو إضراب وانتقال من تبكيتهم بمطالبة البرهان، إلى بيان أنه لا ينجع فيهم المحاججة لجهلهم وعنادهم، ولذلك قال: فَهُمْ مُعْرِضُونَ أي: فهم لأجل جهلهم وعتوهم مستمرون على الإعراض عن التوحيد واتباع الرسول، لا يَرْعَوُونَ عما هم عليه من الغي والضلال، وإن كررت عليهم البينات والحجج. أو معرضون عما ألقى عليهم من البراهين العقلية والنقلية لانهماكهم.

وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي «١» إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ، هذا مُقَرِّر لِما قبله مِن كون التوحيد مما نطقت به الكتب الإلهية، وأجمعت عليه الرسل- عليهم السلام- قاطبة. وصيغة المضارع في (يوحى) لحكاية الحال الماضية استحضاراً لصورة الوحي العجيبة. والله تعالى أعلم.

الإشارة: قوله تعالى: (وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ) ، العندية، هنا، عندية اصطفاء وتقريب، وهذه صفة العارفين المقربين، لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ، بل خاضعون لجلاله وقهريته على الدوام، ولا يستحسرون:


(١) قرأ حمزة والكسائي وحفص: (نُوحِي) بالنون وكسر الحاء، على التعظيم، وقرأ الآخرون- بالياء وفتح الحاء، (انظر: الإتحاف ٢/ ٢٦٢) .

<<  <  ج: ص:  >  >>