للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لا يملُّون منها ولا يشبعون، غير أنهم يتلونون فيها من عبادة الجوارح إلى عبادة القلوب كالتفكر والاعتبار، إلى عبادة الأرواح كالشهود والاستبصار، إلى عبادة الأسرار كالعكوف في حضرة الكريم الغفار، يُنزهون الله تعالى في جميع الأوقات، لا يفترون عن تسبيحه بالمقال أو الحال.

وقوله تعالى: أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً ... الخ، تَصْدُق على من مال بقلبه إلى محبة الأكوان، أو ركن إلى الحظوظ والشهوات، وقوله تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا، اعلم أن ثلاثة اشياء إذا تعدد مدبرها فسد نظامها أولها: الألوهية، فلو تعددت لفسد نظام العالم، وثانيها: السلطنة، إذا تعددت في قُطْر واحد فسدت الرعية، وثالثها:

الشيخوخة، إذا تعددت على مريد واحد فسدت تربيته، كالطبيب إذا تعدد على مريض واحد فسد علاجه. والله تعالى أعلم.

وقوله تعالى: لاَ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ قال الكواشي: يعني: لا يُسأل عن فعله وحُكمه لأنه الرب، وهم يُسألون لأنهم عبيده. وبعض الناس يقول: هذه آية الدبوس «١» . قلت: وقد تقلب السين زايًا، ومعناها: أن كل ما تحكم به القدرة: يجب حنو الرأس له، من غير تردد ولا سؤال. ثم قال: ولو نظر النظر الصحيح لرآها أنصف آية في كتاب الله تعالى وذلك لأنه جمع فيها بين صفة الربوبية وصفة العبودية. هـ.

وقوله: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلهَ إِلَّا أَنَا يعني: أن التوحيد مما أجمعت عليه الرسل والكتب السماوية. والفناء فيه على ثلاثة أقسام: فناء في توحيد الأفعال، وهو ألاَّ يرى الفعل إلا من الله، ويغيب عن الوسائط والأسباب، وفناء في توحيد الصفات، وهو أن يرى ألا قادر ولا سميع ولا بصير ولا متكلم إلا الله، وفناء في توحيد الذات، وهو أن يرى ألا موجود إلا الله، ذوقًا ووجدًا وعقدًا. كما قال صاحب العينية:

هو الموجد الأشياء، وهو وجودها ... وعين ذوات الكل، وهو الجَوَامِعُ «٢»

وقد أشار بعضهم إلى هذه الفناءات، فقال:

فيفنى، ثم يفنى، ثم يفنى، ... فكان فناؤه عين البقاءِ

وهنا- أي: في مقام الفناء والبقاء- انتهت أقدام السائرين، ورسخت أسرار العارفين، مع ترقيات وكشوفات أبد الآبدين، جعلنا الله مِن حزبهم. آمين.


(١) هكذا فى الأصول.
(٢) المراد: أن الحق تعالى قيوم الأشياء ومفيضها من العدم، والمتجلى عليها بمراده منها، إذ أنها فى ذاتها فانية من قبل ومن بعد لأنه لا قيومية لها من ذاتها. هذا هو المعنى الذي ينبغى أن يفهم من خلال هذا البيت وأشباهه. [.....]

<<  <  ج: ص:  >  >>