قلت: تسليط الشيطان على بشرية الأنبياء الظاهرة: جائز وواقع. وأما الأمراض المنفرة، فإن كانت بعد التبليغ وتقرير الشرائع، فجائز عند بعضهم، وهو الصواب، جمعًا بين ما ثبت في الأخبار عن السلف وبين الدلائل العقلية في تنزيه الأنبياء- عليهم السلام-، لأن العلة هي تنفير الخلق عنهم، وبَعْد التبليغ فلا يضر، وقد ورد أن شُعيبًا عليه السلام عَمى في آخر عمره، وكذلك يعقوب، وكان بعد تبليغ الرسالة، فلم يضر.
ثم قال تعالى في حق أيوب عليه السلام: فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ إنعامًا عليه، فلمّا قام من مرضه جعل يلتفت فلا يرى شيئًا مما كان له من الأهل، والمال، ثم أحيا الله أولاده بأعيانهم، ورزقه مثلهم، ورد عليه ماله، بأن أخلف له مثله، وذلك قوله تعالى: وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ وقيل: كان ذلك بأن ولد له ضعف ما كان له. وقال عكرمة: آتيناه أهله في الآخرة، ومثلهم معهم في الدنيا، والأول هو ظاهر الآية، ردهم الله تعالى بأعيانهم إظهارًا لكمال قدرته تعالى.
ثم قال رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا: مفعول من أجله، أي: آتينا ما ذكر لرحمتنا أيوب، وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ أي:
وتذكرة لغيره من العابدين ليصبروا كما صبر، ويُثابوا كما أُثيب، أو لرحمتنا العابدين، الذين من جملتهم أيوب، وذكرنا إياهم بالإحسان، وعدم نسياننا لهم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ما ينزل بالمؤمن من الأوجاع والأسقام والشدائد والنوائب، في النفس، أو في الأهل، كله رحمة، عظيمة، ومنّة جسمية، ويقاس عليه: مفارقة الأحباب والأوطان ومشاق الأسفار والمتاعب البدنية، ويُسمى عند الصوفية:
التعرفات الجلالية لأن الله تعالى يتعرف إليهم بها ليعرفوه عيانًا، ولذلك تجدهم يفرحون بها، وينبسطون عند ورودها لما يتنسمون فيها، ويجدون بعدها، من مزيد الاقتراب وكشف الحجاب، وطي مسافة البُعد بينهم وبين رب الأرباب، فهم يؤثرونها على الأعمال الظاهرة لِمَا يتحققون بها من وجود الأعمال الباطنية كالصبر والزهد والرضا والتسليم، وما ينشأ عنها، عند ترقيق البشرية، من تشحيذ الفكرة والنظرة، وغير ذلك من أعمال القلوب.
وفي الحِكَم:«إذا فتح لك وجهة من التعرف، فلا تُبالي معها إن قلَّ عملك فإنه ما فتحها لك إلاَّ وهو يريد أن يتعرف إليك منها، ألم تعلم أن التعرف هو مورده عليك، والأعمال أنت مهديها إليه، وأين ما تهديه إليه مما هو مورده عليك؟» . قال الشيخ ابن عباد رضى الله عنه: معرفة الله تعالى هي غاية المطالب، ونهاية الأماني والمآرب، فإذا واجه اللهُ عبده ببعض أسبابها، وفتح له باب التعرّف له منها، فذلك من النعم الجزيلة عليه، فينبغي ألا يكترث بما يفوته بسبب ذلك من أعمال البر، وما يترتب عليها من جزيل الأجر، وليعلم أنه سلك به مسلك الخاصة المقرّبين،