للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المؤدي إلى حقائق التوحيد واليقين، من غير اكتساب من العبد ولا تَعَمُّلٍ، والأعمالُ التي من شأنها أن يتلبس بها هي باكتسابه وتعمله، وقد لا يسلم من دخول الآفات عليها، والمطالبة بوجود الإخلاص فيها، وقد لا يحصل له ما أمّله من الثواب عند مناقشة الحساب، وأين أحدهما من الآخر؟.

ومثاله: ما يُصاب به الإنسان من البلايا والشدائد التي تُنَغِّصُ عليه لذات الدنيا، وتمنعه من كثير من أعمال البر، فإنَّ مرادَ العبد أن يستمر بقاؤه في الدنيا، طيَّبَ العيش ناعمَ البال، ويكون حاله في طلب سعادة الاخرة حال المترفين فلا تسخو نفسه إلا بالأعمال الظاهرة، التي لا كثير مُؤْنَةٍ عليه فيها ولا مشقة، ولا تقطع عنه لذة، ولا يفوته شهوة، ومراد الله منه أن يُطهره من أخلاقه اللئيمة، ويحول بينه وبين صفاته الذميمة، ويُخرجه من أَسْرِ وجوده إلى متسع شهوده، ولا سبيل إلى الوصول إلى هذا المقام على غاية الكمال والتمام، إلا بما يُضادُ مراده، ويشوّش عليه معتادَه، وتكون حاله حينئذ المعاملة بالباطن، ولا مناسبة بينها وبين الأعمال الظاهرة، فإذا فَهِمَ هذا عَلِمَ أن اختيار الله له، ومرادَه منه، خيرٌ من اختياره لنفسه ومراده لها.

وقد رُوِيَ أنَّ الله تعالى أوحى إلى بعض أنبيائه: «إني إذا أنزلت بعبدي بلائي، فدعاني، فماطلتُه بالإجابة، فشكاني، قلت: عبدي كيف أرحمك من شيء به أرحمك» ؟ وفي حديث أبي هريرة رضى الله عنه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

«قال الله تعالى: إذا ابتليت عبدي المؤمن فلم يشكني إلى عُوّاده، أنشطته من عقالي، وبدَّلته لحمًا خيرًا من لحمه، ودمًا خيرًا من دمه، ويستأنف العمل» «١» .

ثم نقل عن أبي العباس ابن العريف رضى الله عنه قال: كان رجل بالمغرب يُدعى أبا الخيَّار، وقد عمّ جسده الجذامُ، ورائحة المسك تُوجد منه على مسافة بعيدة، لقيه بعضُ الناس، فقال له: يا سيدي كأن الله تعالى لم يجد للبلاء مَحلاً من أعدائه حتى أنزله بكم، وأنتم خاصة أوليائه!! فقال لي: اسكت، لا تقل ذلك لأنا لمّا أشرفنا على خزائن العطاء، لم نجد عند الله أشرف ولا أقرب من البلاء، فسألناه إِيّاه «٢» ، وكيف بك لو رأيت سيّد الزهّاد، وقطبَ العباد، وإمام الأولياء والأوتاد، في غار بأرض طرطوس وجبالها، ولحمُه يتناثر، وجلده يسيل قيحًا وصديدًا، وقد أحاط به الذباب والنمل، فإذا كان الليل لم يقنع بذكر الله وشكره على ما أعطاه من الرحمة، حتى يشدّ نفسه بالحديد، ويستقبل القبلة عامَّةَ ليله حتى يطلع الفجر. هـ.


(١) أخرجه البيهقي فى السنن الكبرى (الجنائز، بال ما ينبغى لكل مسلم أن يستشعره من الصبر..) ، والحاكم فى المستدرك (الجنائز ١/ ٣٤٩) عن أبى هريرة، وصححه الحاكم، وأقره الذهبي.
(٢) أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتداوى. وقال: «اسألوا الله العافية» .

<<  <  ج: ص:  >  >>