للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد تكلم الصوفية في قول أيوب عليه السلام: مَسَّنِيَ الضُّرُّ هل شكى ضرر جسمه، أو ضرر قلبه من جهة دينه؟

قال بعضهم: قيل: إنه أراد النهوضِ إلى الصلاة فلم يستطع، فقال: (مَسَّنِيَ الضُّرُّ) ، وقيل: إنه أكل الدود جميع جسده، حتى بقي عظامًا، فلما قصد الدودُ قلبَه ولسانَه غار على قلبه لأنه موضع المعرفة والتوحيد، والنبوة والولاية، وأسرار الله تعالى، وخاف انقطاع الذكر، فقال: (مَسَّنِيَ الضُّرُّ) ، وقيل: خاف تبدد همه وتفرق قلبه، وليس في العقوبة شيء أشد من تبدد الهم، فتارة يقول: لعلي ببلائي مُعاقب، وتارة يقول: بضري مُستدرج، فلما خاف تشتيت خاطِره عليه، قال: (مَسَّنِيَ الضُّرُّ) . هـ.

قلت: هذا المقام لا يليق بالأنبياء، وإنما يجوز على غيرهم إذ الأولياء يترقون عن هذا المقام فكيف بالأنبياء! وقال بعضهم: قال: مسني الضر من شماتة الأعداء، واقتصر عليه ابنُ جُزي، وفيه شيء إذ كثير من الأولياء سقط الناس من عينهم، فلا يُبالون بخيرهم ولا شرهم، ولا مدحهم ولا ذمهم، فكيف بالأنبياء- عليهم السلام-؟! وقال القشيري: كان ذلك منه إظهارًا للعجز، لا اعتراضًا، فلا يُنافي الصبر، مع ما فيه من التنفيس عن الضعفاء من الأمة، ليكون أسوة. ويقال: إن جبريل أمره بذلك، وقال له: إن الله يغضبُ إن لم يُسأل، وسيان عنده البلاء والعافية، فسَله العافية. ويقال: إن أيوب كان مُكَاشَفًا بالحقيقة، مأخوذًا عنه، وكان لا يُحِسُّ بالبلاء، فَسَتَر عليه، فردَّه إليه، فقال: مَسني الضُّرُّ، وقيل: أَدْخَل على أيوب تلك الحالة، فاستخرج منه تلك المقالة ليظهر عليه سمة العبودية «١» . هـ.

وقال الورتجبي: سُئل الجنيد عن قوله: (مَسَّنِيَ الضُّرُّ) ، فقال عرّفه فاقة السؤال، ليمنّ عليه بكرم النوال، وفي الحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه جاء إليه رجل فسأله عن قول أيوب «مسنى الضر» ، فبكى- عليه الصلاة والسّلام- وقال: والذي بعثني بالحق نبيًا ما شكى فقرًا نزل من ربه، ولكن كان في بلائه سبع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام وسبع ساعات، فلما كان في بعض الساعات وثب ليُصلي، فلم يستطع النهوض، فقال: (مَسَّنِيَ الضُّرُّ) إلخ. ثم قال عليه الصلاة والسّلام-: أكل الدود عامة جسد حتى بقي عظامًا نخرة «٢» ، فكادت الشمس تطلع من قُبله وتخرج من دُبره، وما بقي إلا قلبه ولسانه، وكان قلبه لا يخلو من ذكر الله، ولسانه لا يخلو من ثنائه على ربه، فلما أحب الله له الفرج، بعث إليه الدودتين إحداهما إلى لسانه والأخرى إلى قلبه، فقال: يا رب ما بقي إلا هاتان الجارحتان، أذكرك بهما، فأقبلت هاتان الدودتان إليهما ليشغلاني عنك ويطلعان على سري، مسني الضر وأنت أرحم الراحمين. هـ.

وفي قوله تعالى: (رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ) : تسلية لمن أصيب بشيء من هذه التعرفات الجلالية، وقد تقدم في أول الإشارة الكلام على هذا. والله تعالى أعلم.


(١) باختصار.
(٢) لم أقف عليه.

<<  <  ج: ص:  >  >>