للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ أي: لهذا النور الباهر مَنْ يَشاءُ من عباده إما بإلهام أو بواسطة تعليم. وفيه إيذان بأن مناط هذه الهداية إنما هي بمشيئته تعالى، وأن الأسباب لا تأثير لها. وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ تقريباً للفهم، لأنه إبراز للمعقول في هيئة المحسوس وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، معقولاً كان أو محسوساً، فيبين الأشياء بما يمكن أن تُعْلَم به. والله تعالى أعلم.

الإشارة: اعلم أن الكون كله من عرشه إلى فرشه قطْعةٌ من نور الحق، وسر من أسرار ذاته، مُلْكٌ، وباطنه ملكوت فائض من بحر الجبروت، فالكائنات كلها: الله نُورُها وسرُّها، وهو القائم بها. ولا يفهم هذا إلا أهل الفناء من العارفين بالله، وحسبُ مَن لم يَبلُغ مقامهم التسليم لما رمزوا إليه، وتحققوه ذوقاً وكشفاً.

ثم ضرب الحقُّ تعالى مثلاً لنوره الفائض من بحر جبروته، فقال: مَثَلُ نُورِهِ الظاهر، الذي تجلى به في عالم الشهادة، كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ أي: كطاقة انفتحت من بحر اللّطَافَةِ الكَنْزِيَّةِ، خرج منها نور كثيف كالمصباح، فالكون كله مِصْبَاحُ نورٍ، انفجر من النور، ومن ذلك المصباح تفرعت الكائنات، فهي كلها نور فائض من بحر نوره اللطيف، ثم جعل الحق تعالى يصف ذلك المصباح في توقده وتوهجه بقوله: الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ ... .. إلخ. فالآية كلها من تتمه التمثيل.

وقوله تعالى: وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ قيل: الإشارة فيه إلى استغناء العبد في تلك الحالة عن الاستمداد إلا من رب العزة، فيستغني عن الوسائط. وقوله تعالى: نُورٌ عَلى نُورٍ أي: نور ملكوته على نور جبروته، يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ أي: لشهود نوره، أو لمعرفة نوره، مَنْ يَشاءُ من خواص أحبابه، كأنبيائه وأوليائه، فمن لم يشهد هذا النور، ولم يعرفه، لا خصوصية له يتميز بها عن العوام، فهو من عامة أهل اليمين، ولو كثر علمه وعمله إذ لا عبرة بالعلم والعمل مع الحِجَاب. وفي الحِكَم: «الكائن في الكون، ولم تفتح له ميادين الغيوب، مسجون بمحيطاته، محصور في هيكل ذاته» ، والمحجوب برؤية الأكوان من جملة العوام عند أهل العيان، ينسحب عليه معنى المثال الآتي في ضد هذا بقوله: (أو كظلمات..) إلخ.

وفي الحِكَم. «الكون كله ظلمة، وإنما أناره ظهورُ الحَقِّ فيه، فمن رأى الكون ولم يشهده فيه، أو عنده، أو قبله أو بعده، فقد أعوزه وجود الأنوار، وحجبت عنه شموس المعارف بسُحب الآثار» «١» . فالكون عند أهل العيان كله نور، وعند أهل الحجاب كله ظلمة، وهو محيط بهم، فالظلمة محيطة بهم، وقد ألف الغزالي في هذه الآية كتابه:


(١) انظر الحكم بتبويب المتقى الهندي (ص ٣٢ حكمة ١٤) .

<<  <  ج: ص:  >  >>