للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وسَاقِيها، وشَاربهَا، وحَامِلهَا، والْمْحمُولة لَهُ، وآكل ثَمِنِها» . فهذه آثام، وفيها مَنافِعُ لِلنَّاسِ أي: منافع دنيوية ككسب المال بلا تعب، وإطعام الفقراء من كسبه، كما كانت تصنع العرب في الميسر، وفى الخمرة اللذة والنشوة، كما قال حسان رضي الله عنه:

ونَشْرَبُها فَتَتْرُكنا مُلوكاً ... وأُسداً لا يُنهْنِهُنا اللقَاءُ «١»

وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما لأن منفعتهما دنيوية، وعقوبة إثمهما أُخروية، وهذه الآية نزلت قبل التحريم.

رُويَ أنه لمّا نزل بمكة قوله تعالى: وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً، أخذ المسلمون يشربونها، ثم إن عمرَ ومعاذاً في نفر من الصحابة، قالوا: أفْتنا يا رسول الله في الخمر فإنها مُذهبة للعقل، فنزلت هذه الآية، فشربها قوم وتركها آخرون، ثم دعا عبدُ الرحمن بن عوف ناساً إلى داره، فشربوا وسكروا، ثم قام يصلي بهم فقرأ: (قل يا أيها الكافرون أعبدُ ما تعبدون) من غير نفي، فنزلت: ... لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى ... فاجتنبُوها في أوقات الصلاة. ثم دعا عتبانُ بنُ مالك سعدَ بن أبي وقاص في جماعة، فلما سكروا افتخروا وتناشدوا، فأنشد سعدُ شعراً فيه هجاء الأنصار، فضربه أنصارى بلخى بعير فشجَّه، فشكى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: اللهم بيِّن لنا في الخمر بياناً شافياً. فنزلت إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ ... إلى قوله ... فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ فقال عمر: قد انتهينا يا رب. هـ.

ولما شربها بعض الناس بعد التحريم، كان- عليه الصلاة والسلام- يضرب فيها بالنعال والجريد، ضرباً غير محدود، وضرب أبو بكر وعمر أربعين، وأول من حد فيها ثمانين سيدنا عثمان «٢» ، لما تهافت الناس فيها. والله تعالى أعلم.

الإشارة: اعلم أن الحق تعالى جعل للعقل نوراً يُميز بين الحق والباطل، بين الضار والنافع، وبين الصانع والمصنوع، ثم إن هذا النور قد يتغطى بالظلمة الطينية وهي نشوة الخمر الحسية. وقد يتغطى أيضاً بالأنوار الباهرة من الحضرة الأزلية إذا فاجأته، فيغيب عن الإحساس في مشاهدة الأنوار المعنوية، وهي أسرار الذات الأزلية، فلا يرى إلا أسرار المعاني القديمة، وينكر الحوادث الحسية، فسمي الصوفية هذه الغيبة خمرة لمشاركتها للخمر في غيبوبة العقل، وتغنوا بها في أشعارهم ومواجيدهم، قال ابن الفارض رضي الله عنه:

شَرِبْنَا على ذِكْر الحبيبِ مُدامَةً ... سَكرنَا بها من قبل أن يُخلَقَ الكَرْمُ «٣»


(١) قوله: (لا ينهنهنا) ، النهنهة: الكف والمنع، والمراد: لا نخاف لقاء العدو.
(٢) الوارد أن سيدنا عمر رضي الله عنه هو أول من حد فى شرب الخمر ثمانين. أنظر فتح الباري ١٢/ ٧٠- ٧٥.
(٣) هذا الشعر مبنى على اصطلاح الصوفية. فإنهم يذكرون فى عباراتهم الخمرة بأسمائها وأوصافها. ويريدون بها ما أدار الله على ألبابهم من المعرفة، أو من الشوق والمحبة. وقوله: (سكرنا) كناية عن إغفال أمور الدنيا والحياة، مع معرفة الله عزّ وجل- وهو كما يقول الآلوسى: سكر أرواح لا أشباح.

<<  <  ج: ص:  >  >>