للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ هذا بيان لكبرياء شأنه، وأنه لا يدانيه أحد ليقدر على تغيير ما يريده بشفاعة واستكانة، فضلاً عن أن يعاوقه عناداً أو مناصبة. والاستفهام إنكاري، أي: لا أحد يشفع عنده لمن أراد تعالى عقوبته، إلا بإذنه، وذلك أن المشركين زعموا أن الأصنام تشفع لهم، فأخبر تعالى أنه لا شفاعة عنده إلا بإذنه، يريد بذلك شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وبعض الأنبياء والأولياء والملائكة.

يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ أي: ما قبلهم وما بعدهم، أو بالعكس، لأنك تستقبل المستقبل وتستدبر الماضي وقيل: يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ من الدنيا وَما خَلْفَهُمْ من الآخرة، وقيل: عكسه، لأنهم يقدمون ويُخَلِّفُون الدنيا وراءهم، وقيل: يعلم ما قدموه بين أيديهم من خير أو شر، وما خلفهم وما هم فاعلوه، أو عكسه.

والمراد أنه سبحانه أحاط بالأشياء كلها، فلا يخفى عليه شيء وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ أي: لا يحيطون بشيء من معلوماته تعالى إلا بما شاء أن يُطْلعهم عليه، وعطفه على ما قبله لأن مجموعه يدل على تفرده تعالى بالعلم الذاتي التام، الدال على وحدانيته تعالى في ذاته وصفاته.

وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ يقال: فلان يسَعُ الشيء سعة إذا احتمله وأطاقه وأمكنه القيامُ به. ويقال:

وسع الشيءُ الشيء إذا أحاط به وغمره حتى اضمحلّ في جانبه، وهذا المعنى هو اللائق هنا. وأصل الكرسي في اللغة: من تَركّب الشيء بعضه على بعض، ومنه الكراسة، لتركب أوراقها بعضها على بعض، وفي العرف: اسم لما يُقعد عليه، سُمِّي به لتركب خشباته. واختلف فيه فقيل: العرش، وقيل: غيره.

والصحيح أنه مخلوق عظيم أمام العرش، فوق السموات السبع دون العرش. يقال: إن السموات والأرض في جنب الكرسي كحلقة في فلاة. والكرسي في جانب العرش كحلقة في فلاة. وعن ابن عباس: (أن السموات في الكرسي كدراهم سبعة في تُرْسٍ) وقيل: كرسيه: علمه.

قال البيضاوي: هو تصوير لعظمته تعالى وتمثيل مجرد، كقوله وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ولا كرسي في الحقيقة ولا قاعد «١» . وقيل: كرسيه مجاز عن


(١) هذا الذي اختاره جم من الخلف، فرارا من توهم التجسيم، والحق: أن الكرسي ثابت كما نطقت به الأخبار الصحيحة. ومذهب سادتنا من السلف الصالح هو: جعل ذلك من الأمور التي لا يحيط المرء بها علما، مع تفويض العلم فيها إلى الله تعالى، مع اعتقاد التنزيه والتقديس له تعالى شأنه. وهذا هو الأسلم
.

<<  <  ج: ص:  >  >>