بأحد يتعرض لهم، أو يطمع في مغازيهم، وليس ذلك في قولك: وظنوا أنّ حصونهم تمنعهم. {فأتاهم اللهُ} أي: أمره وعقابه {من حيث لم يحتسبوا} ؛ من حيث لم يظنوا، ولم يخطر ببالهم، حتى قُتل " كعب " رئيسهم على يد أخيه رضاعاً.
{وقَذَفَ في قلوبهم الرُّعْبَ} ؛ الخوف والجزع، {يُخْربون بيوتَهم بأيديهم وأيدي المؤمنين} ، فكانوا يُخربون بواطنَها، والمسلمون ظواهرَها، لِمَا أراد الله مِن استئصال شأفتهم، وألاَّ تبقى لهم بالمدينة دار، ولا منهم دَيَّار. والذي دعاهم إلى التخريب حاجتهم إلى الخشب والحجارة، ليسدُّوا بها أفواه الأزفَّة ولئلا يبقى بعد جلائهم مساكن للمسلمين، وأن ينقلوا معهم ما كان في أبنيتهم من جيّد الخشب والساج، وأمّا المؤمنون فدعاهم إلى التخريب إزالة مُتحصّنهم، وأن تتسع لهم مجال الحرب. ومعنى تخريبهم إياها بأيدي المؤمنين: أنهم لما عرّضوهم بنكث العهد لذلك، وكان السبب فيه؛ فكأنهم أمروهم به، وكلّفوهم إياه. {فاعتبِروا يا أُولي الأبصارِ} أي: فاتعِظوا بما جرى عليهم من الأمور الهائلة على وجهٍ لا تهتدي إليه الأفكار، أو: فتأملوا فيما نزل بهؤلاء، والسبب الذي استحقوا به ذلك، فاحذروا أن تفعلوا مثَل فعلهم، فتُعاقََبوا مثل عقوبتهم. قال البيضاوي: اتعِظوا بحالهم، فلا تغدروا، ولا تعتمدوا على غير الله. هـ. وهذا دليل على جواز القياس.
{
ولولا أن كتب اللهُ عليهم الجلاء} ؛ الخروج من الوطن، على ذلك الوجه الفظيع {لعذَّبهم في الدنيا} بالقتل والسبي، كما فعل ببني قريظة، {ولهم في الآخرة عذابُ النار} الذي لا أشد منه، {ذلك بأنهم} أي: إنما أصابهم ذلك بسبب أنهم {شاقُوا اللهَ} ؛ خالَفوه {ورسوله} وفعلوا ما فعلوا، مما حكي عنهم من القبائح، {ومَن يُشاقِّ اللهَ} ، وقرئ:" يشاقِق " على الأصل. والاقتصار على مشاققته لتضمنها مشاققته عليه السلام، وليوافق قوله تعالى:{فإنَّ الله شديدُ العقاب} ، والجملة: إما نفس الجزاء على حذف العائد، أي: شديد العقاب له، أو: تعليل للجزاء المحذوف، أي: يُعاقبه لأنّ الله شديد العقاب.
الإشارة:" سبِّح لله " نزَّه الله تعالى مَن وجود الغيرية والإثنينية ما في سموات الأرواح من علوم الأحدية، ونزّهه ما في أرض النفوس والعقول من البراهين القطعية عن الشبيه والنظير. والعارف الكامل هو الذي يجمع بين التنزيه والتشبيه في ذات واحدة، في دفعة واحدة، فالتنزيه من حيث ذات المعاني، والتشبيه من حيث الأواني، أو التنزيه من حيث الجمع، والتشبيه من حيث الفرق، أو التنزيه من حيث اسمه الباطن، والتشبيه من حيث اسمه الظاهر. وانظر القشيري في مختصر الإشارات، ولعل هذا المنزع هو الذي رام الجيلاني، حيث قال في عينيته: