فإِذا قُضِيَتِ الصلاةُ} أي: أُدّيت وفرغ منها {فانتشِرُوا في الأرض} ، أمْرُ إباحة، أي: اخرجوا لإقامة مصالحكم، {وابتغوا من فضل الله} ؛ الرزق، قال ابن عباس:" إنما هي عيادة المريض، وحضور الجنائز، وزيارة أخ في الله " ومثله في الحديث، وعن الحسن: طلب العلم، وقيل: صلاة التطوُّع. {واذكروا اللهَ كثيراً} ، أي: ذكراً كثيراً، أو زمناً كثيراً، ولا تخصُّوا ذكره بالصلاة، {لعلكم تُفلحون} أي: كي تفوزوا بخير الدارين.
{وإِذا رأَوْا تجارة أو لهوا انفَضُّوا إِليها} ، رُوي أنّ أهل المدينة أصابهم جوع وغلاء شديد، فقَدِم دِحْيَة بن خَليفةَ، بتجارة من زيت الشام، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة، فقاموا إليها؛ خشية أن يُسبقوا إليه، فما بقي معه عليه السلام إلاّ ثمانية، أو اثنا عشر؛ العشرة المبشَّرون بالجنة، وبلال وابن مسعود، وقيل: أربعون، وهذا مبنى الخلاف في عدد الجماعة التي تنعقد بهم وتجب عليهم، فقال مالك: تنعقد باثني عشر غير الإمام، وتجب على قرية يُمكنهم الإقامة والدفع عن أنفسهم في الغالب، وقال الشافعي: أربعون رجلاً وقال أبو حنيفة: لا بد من المصر الجامع، والسلطان القاهر، وتصح الصلاة عنده بأربعة. ولمّا انفضُّوا قال صلى الله عليه وسلم:" والذي نفس محمد بيده لو قاموا جميعاً لأضرم الله عليهم الوادي ناراً " وفي مراسيل أبي داود: إنّ الخطبة كانت بعد الصلاة، فتأوّلوا ـ رضي الله عنهم ـ أنهم قد قضوا ما عليهم، فحولت الخطبة بعد ذلك قبل الصلاة. هـ.
وكانوا إذا أقبلت العير استقبلوها بالطبل والتصفيق، وهو المراد باللهو. وتخصيص التجارة برجْع الضمير إليها؛ لأنها المقصودة، أو لأن الانفضاض إذا كان للتجارة مع الحاجة إليها مذموماً، فما ظنك بالانفضاض إلى اللهو، فهو مذموم في نفسه، وقيل: التقدير: إذا رأوا تجارة انفضُّوا إليها، أو لهواً انفضُّوا إليه، فحذف الثاني لدلالة الأول عليه. وقال أبو حيان: وإنما قال: " إليها "، ولم يقل: إليهما، لأن العطف بـ " أو " لا يثنى فيه الضمير، بل يفرد، وقال الطيبي: الضمير راجع إلى اللهو، باعتبار المعنى، والسر فيه: أنَّ التجارة إذا شغلت المكلّف عن الذكر عُدت لهواً، وتعد فضلاً إن لم تشغله، كما ذكر قبل ذلك، فراجعه.
{وتَركُوك قائمًا} على المنبر، وفيه ندليل على طلب القيام في الخطبة إلاَّ لعذر. {قل ما عند الله} من الثواب {خير من اللهو ومن التجارة} فإنَّ في ذلك نفع محقق دائم، بخلاف ما فيهما من النفع المتوهم. {واللهُ خيرُ الرازقين} فإليه اسعوا، ومنه اطلبوا الرزق، أي: لا يفوتهم رزق الله بترك البيع، فهو خير الرازقين.