{وأن لو استقاموا} أي: القاسطون {على الطريقة} ؛ طريقة الإسلام {لأسْقيناهم} المطر {ماءً غَدَقاً} أي: كثيراً، والمعنى: لوسّعنا عليهم الرزق. وذكر الماء الغَدَق؛ لأنه سبب سعة الرزق، {لِنفتنَهم فيه} ؛ لنختبرهم فيه كيف يشكرون ما خُوِّلوا منه. وفي الحديث القدسي يقول الله عزّ وجل:" لَوْ أنَّ عِبادِي أطاعوني لأسْقَيتُهم المطرَ باللَّيْل، وأَطْلَعتُ عليهمُ الشمس بالنهار، ولم أًسمِعهم صوت الرعد "، وهذا كقوله تعالى:{وَلَوْ أّنَّ أّهْلَ الْقُرَىءَامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ}[الأعراف: ٩٦] ، وقيل: المعنى: وأن لو استقاموا على طريقة الكفر لأسقيناهم ماءً غدقاً، استدراجاً، {لِنفتنَهم فيه} فإذا لم يشكروا أهلكناهم، وهذا كقوله تعالى:{وَلَوْلآ أّن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةَ وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا ... }[الزخرف: ٣٣] الخ. والأول أظهر، بدليل قوله:{ومَن يُعرض عن ذكر ربه} ؛ القرآن أو التوحيد أو العبادة، {نسلكه} ؛ ندخله، أو يدخله الله {عذاباً صعداً} ؛ شاقًّا صعباً، يعلو المعذّب ويغلبه ويصعد عليه، ومنه قول عمر رضي الله عنه: ما تصَعَّدني شيءٌ ما تصعّدتني خِطبة النكاح، أي: ما شقَّ عليّ. وهو مصدرٌ وُصف به، مبالغة، فعلى قول ابن عطية أنَّ قوله تعالى:{فمَن أسلم} من مخاطبة الله لنبيه عليه السلام، فيكون قوله:{وأن لو استقاموا} من تتمة الخطاب، فلا تقدير، وإذا قلنا: هو من قول الجن، فالتقدير: وأوحي إليَّ أن لو استقاموا ... الخ.
الإشارة: تقدّم أنَّ الجن فيهم الصالحون والعارفون، إلاّ أنَّ معرفة الآدمي أكمل؛ لاعتداله، وأما دوائر الأولياء من الأقطاب، والأوتاد، والنقباء، والنجباء، وغير ذلك، فلا تكون إلاّ من الإنس؛ لشرفهم. قوله تعالى:{وأنا ظننا ألن نُعجز اللهَ في الأرض ... } الخ، أي: تيقَّنا ألاّ مهرب منه، فرجعنا إليه اختباراً، فنحن ممن انقاد إليه بملاطفة الإحسان، لا بسلاسل الامتحان، {وأنَّا لمّا سمعنا الهُدى آمنا} أي: أجبنا الداعي بلا تلَعْثم ولا تردد، وكذا في كل داعٍ بعد الداعي الأكبر، فيكون السابقون في كل زمان، وهؤلاء سابِقو الجن ومقربوهم، فمَن يؤمن بربه، ويتوجه إليه، فلا يخاف نقصاً ولا ذُلاًّ، بل كمالاً وعِزًّا، من أي فريق كان، وأنّا منا المسلمون المنقادون لأحكامه تعالى، التكليفية والتعريفية، وهي الأحكام القهرية، فمَن استسلم ورَضِي فقد تحرّى رشداً، ومَن قنط وسخط كان لجهنم حطباً، وأن لو استقاموا على الطريقة المرضية بالرضا والتسليم، وترك الاختيار؛ لأسقيناهم من خمرة الأزل، ومن ماء الحياة، ماءً غدقاً، تحيا به قلوبهم وأرواحهم، فيتنعّمون في شهود الذات الأقدس في الحياة وبعد الممات. قال القشيري: الاستقامة تقتضي إكمالَ النعمةِ، وإكساب الراحة، والإعراضُ عن الله يُجب تَنَقُّصَ النعمة ودوام العقوبة. هـ.