يطلبهم، فقالوا: ليسوا هاهنا، قال: ماذا في البيت؟ قالوا: خنازير، قال عيسى: كذلك يكونون، ففتحوا الباب، فإذاهم خنازير، فهموا بقتله، فهربت به أمه إلى مصر. قاله السُّدي.
ثم قال لهم: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، فإن غير المؤمنين لا ينتفع بالمعجزات لعناده، وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ أي: وجئتكم مصدقاً للتوراة، وشاهداً على صحتها، وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ في شريعة موسى عليه السلام كالشحوم والثروب «١» ولحم الإبل والعمل في السبت. وهذا يدل على أنه ناسخ للتوراة، ولا يخل بكونه مصدقاً له، كما لا يخل نسخ القرآن بعضه لبعض بصحته. فإن النسخ في الحقيقة: بيان لانتهاء العمل بذلك الحكم. ثم قال لهم:(و) قد جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ واضحة مِنْ رَبِّكُمْ، قد شاهدتموها بأعينكم، فما بقي إلا عنادكم، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ.
ثم دعاهم إلى التوحيد بعد بيان الحجة فقال: إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ولا تعبدوا معه سواه، هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ لا عوج فيه. قال البيضاوي: أي: لما جئتكم بالمعجزات القاهرة والآيات الباهرة، فَاتَّقُوا اللَّهَ في المخالفة، وَأَطِيعُونِ فيما أدعوكم إليه، ثم شرع في الدعوة وأشار إليها بالقول المجمل، فقال: إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ أشار إلى استكمال القوة النظرية بالاعتقاد الحق الذي غايتُه التوحيد، وقال: فَاعْبُدُوهُ إشارة إلى استكمال القوة العملية بملازمة الطاعة، التي هي الإتيان بالأوامر والانتهاء عن المناهي، ثم قرر ذلك بأن الجمع بين الأمرين هو الطريق المشهود له بالاستقامة، ونظيره: قوله عليه الصلاة والسلام: «قُلْ آمَنْتُ بِاللهِ ثم اسْتَقِمْ» .
الإشارة: كل من انقطع بكليته إلى مولاه، وصدف عن حظوظه وهواه، وأفنى شبابه في طاعة ربه، وجعل يلتمس في حياته دواء قلبه، تحققت له البشارة في العاجل والآجل، وحصل له التطهير من درن العيوب والرذائل، ورزقه من فواكه العلوم، ما تتضاءل دون إدراكه غاية الفهوم، هذه مريم البتول أفنت شبابها في طاعة مولاها، فقربها إليه وتولاها، وبشرها بالاصطفائية والتطهير، وأمرها شكراً بالجد والتشمير، ثم بشّرها ثانياً بالولد النزيه والسيد النبيه، روح الله وكلمة الله، من غير أب ولا سبب، ولا معالجة ولا تعب، أمره بأمر الله، يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله، هذا كله ببركة الانقطاع وسر الاتباع.
قال صلّى الله عليه وسلم:«من انقطع إلى الله كَفَاه الله كلَّ مُؤْنة، ورَزقه من حيثُ لا يحتسب، ومن انقطع إلى الدنيا وكَلَه الله تعالى إليها» .
(١) الثروب: جمع ثرب، وهو شحم دقيق يغطى الكرش والأمعاء. [.....]