للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

رسلك من الفضل والرحمة وحسن المآب، سألوا ما وُعدوا على الامتثال، لا خوفا من إخلاف الوعد، بل مخافة ألاَّ يكونوا موعودين لسوء عاقبة، أو قصور في الامتثال، أو تعبداً، أو استكانة. قاله البيضاوي.

وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ أي: لا تُهِنَّا بسبب تقصيرنا، إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ بإثابة المؤمن وإجابة الداعي، أو ميعاد البعث والحساب، وتكرير رَبَّنا للمبالغة في الابتهال، والدلالة على استقلال المطالب وعلو شأنها، ففي بعض الآثار: (من حزبه أمر فقال خمس مرات: «ربنا» ، أنجاه الله مما يخاف) . «١» قاله البيضاوي.

الإشارة: قدَّم الحق الذكر على الفكر على ترتيب السير، فإن المريد يُؤمَر أول أَمرِهِ بذكر اللسان، حتى يفضي إلى الجنان، فينتقل الذكر إلى القلب، ثم إلى الروح، وهو الفكر، ثم إلى السر، وهو الشهود والعيان، وهنا يخرس اللسان، ويغيب الإنسان في أنوار العيان، وفي ذلك يقول القائل:

مَا إِنْ ذَكَرْتُكِ إلاّ هَمَّ يَلْعَنُنِي ... سِرِّي ورُوحِي وقَلْبي عِنْدَ ذِكرَاكَ

حَتَّى كَأَنَّ رَقيباً مِنْكَ يَهْتِفُ بِي: ... إِيَّاكَ: وَيْحَك والتَّذْكَارَ! إِيَّاكَ!

أَمَا تَرَى الْحقَّ قَدْ لاَحَتْ شَوَاهِدُهُ ... وَوَاصَلَ الْكُلَّ من معناه معناك

فإذا بلغ العبد هذا المقام- الذي هو مقام الإفراد- اتحدت عنده الأوراد، وصار ورداً واحداً، وهو عكوف القلب في الحضرة بين فكرة ونظرة، أو إفراد القلب بالله، وتغيبه عما سواه.

قال في الإحياء في كتاب الأوراد: الموحد المستغرق الهم بالواحد الصمد، الذي أصبح وهمومه هم واحد، فلا يحب إلا الله، ولا يخاف إلا منه، ولا يتوقع الرزق من غيره، ولا ينظر في شيء إلا يرى الله فيه، فمن ارتفعت رتبته إلى هذه الدرجة، لم يفتقر إلى ترتيب الأوراد واختلافها، بل ورده بعد المكتوبات ورد واحد، وهو حضور القلب مع الله في كل حال، فلا يخطر بقلبه أمر، ولا يقرع سمعه قارع، ولا يلوح لنظره لائح، إلاَّ كان له فيه عبرة وفكرة ومزيد، فلا محرك ولا مسكن إلا الله. فهؤلاء جميع أحوالهم تصلح أن تكون سبباً لازديادهم، فلا تتميز عندهم عبادة عن عبادة، وهم الذين فرّوا إلى الله كما قال تعالى: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ، وتحقق فيهم قوله:

إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي، وهذه الدرجة منتهى درجة الصديقين، ولا ينبغي أن يغتر المريد بما يسمعه من ذلك، فيدعيه لنفسه، ويفتر عن وظائف عباداته، فذلك علامته ألا يحس في قلبه وسواساً، ولا يخطر بقلبه معصية، لا يزعجه هواجم الأحوال، ولا يستفزه عظائم الأشغال، وأنى تكون هذه المرتبة!. هـ.


(١) حكى القرآن عن أولى الألباب فى هذه الآيات- أنهم قالوا: (ربنا) خمس مرات. وعن الأثر الذي ذكره المصنف- قال المناوى فى الفتح السماوي: لم أقف عليه.

<<  <  ج: ص:  >  >>