قلت: قوله: [لا يخطر بقلبه معصية] غير لازم لأن قلب العارف مرسى للتجليات النورانية والظلمانية، لكنها تقل ولا تسكن.
وقال في موضع آخر: وأما عبادة ذوي الألباب فلا تجاوز ذكر الله تعالى والفكر فيه حُبّاً لجلاله وجماله، وسائر الأعمال تكون مؤكدات. قال: والعامل لأجر الجنة درجته درجة البُلْه، وإنه لينالها بعمله إذ أكثر أهل الجنة البُلْه. هـ. وقال في كتاب كيمياء السعادة: وقد غلط من ظن أن وظائف الضعفاء كوظائف الأقوياء، حتى قال بعض مشايخ الصوفية: من رأني في الابتداء، قال: صار صديقاً، ومن رآني في الانتهاء، قال: صار زنديقاً، يعني أن الابتداء يقتضي المجاهدة الظاهرة للأعين بكثرة العبادات، وفي الانتهاء يرجع العمل إلى الباطن، فيبقى القلب على الدوام في عين الشهود والحضور، وتفتر ظواهر الأعضاء، فيظن أن ذلك تهاون بالعبادة «١» ، وهيهات هيهات!!، فذلك استغراق لمخ العبادات ولبابها وغايتها، ولكن أعين الخفافيش تكل عن درك نور الشمس. هـ.
قال شيخ شيوخنا- سيدي عبد الرحمن العارف- بعد نقل كلام القشيري في هذا المعنى: وما أشار إليه ظاهر في أن أهل القلوب لا يتعاطون كل طاعة. وإنما يتعاطون من الطاعات ما يجمعهم ولا يفرقهم. ولذلك قال الجنيد:
أحب للصوفي ألا يقرأ ولا يكتب لأنه أجمع لهمه، قال: وأحب للمريد ألا يشتغل بالتكسب وطلب الحديث لئلا يتغير حاله. هـ. قلت: ومن رزقه الله شيخ التربية فما عيَّنه له فهو عين ذكره، يسير به كيفما كان.
هذا ما يتعلق بحال الذكر الذي قدَّمه الله تعالى، وأما التفكر فهو أعظم العبادات وأفضل القربات، هو عبادة العارفين ومنتهى المقربين. وفي الخبر:«تفكرُ سَاعةٍ أفضل من عبادة سبعين سنة» .
وقال الجنيد رضي الله عنه: أشرف المجالس وأعلاها: الجلوس مع الفكرة في ميدان التوحيد، والتنسم بنسيم المعرفة، والشرب بكأس المحبة من بحر الوداد، والنظر لحسن الظن بالله تعالى. ثم قال: يا لها من مجالس، ما أجلها، ومن شرابٍ ما ألذه، طوبى لمن رزقه. وقال القشيري رضي الله عنه: التفكر نعت كل طالب، وثمرته: الوصول بشرط العلم، فإذا سلم الفكر عن الشوائب ورد صاحبهُ على مناهل التحقيق. هـ.
وسئلت زوجة أبي ذر عن عبادة زوجها، فقالت: كان نهاره أجمع في ناحية يتفكر. وكذلك زوجة أبي بكر قالت: كان ليله أجمع في ناحية يتفكر. وكذا زوجة أبي الدرداء، وكان سيدنا عيسى عليه السلام يقول: طوبى لمن كان قيله ذكراً وصمته تفكراً، ونظره عبرة. وقال الحسن رضي الله عنه: من لم يكن كلامه حكمة فهو لغو، ومن لم يكن سكوته تفكراً فهو سهو، ومن لم يكن نظره اعتباراً فهو لهو. هـ. وقال في الحكم:(ما نفع القلب شيء مثل عزلة يدخل بها ميدان فكرة) . وقال أيضاً:(الفكرة سِراج القلب، فإذا ذهبت فلا إضاءة له) . وقال أيضاً:(الفكرة فكرتان فكرة تصديق وإيمان، وفكرة شهود وعيان، فالأولى لأرباب الاعتبار، والثانية لأرباب الشهود والاستبصار) .
(١) راجع التعليق على إشارة الآية ٢١٢ من سورة البقرة.