وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ أي: فضَّلنا هؤلاء وبعض آبائهم وذرياتهم، أو هدينا هؤلاء وبعض آبائهم وذرياتهم وإخوانهم، وَاجْتَبَيْناهُمْ أي: اخترناهم للرسالة واصطفيناهم للحضرة، وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ الذي يُوصل إلى حضرة قدسنا. ذلِكَ هُدَى اللَّهِ أي: ذلك الدين الذي دانوا به هو هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ أي: بسببه، مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ، تحذيرًا من الشرك، وإن كانوا معصومين منه.
أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ أي: جنس الكتب، وَالْحُكْمَ أي: الحكمة، أو الفصل بين العباد، على ما يقتضيه الحق، وَالنُّبُوَّةَ الرسالة، فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ: أهل مكة، فَقَدْ وَكَّلْنا بِها أي: بالإيمان بها والقيام بحقوقها، قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ وهُم الأنبياء المذكورون، وتابعوهم، وقيل: الصحابة المهاجرون والأنصار، وهو الأظهر. وقيل: كل مؤمن، وقيل: الفرس. والأول أرجح لدلالة ما بعده عليه، وهو قوله: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ، الإشارة إلى الأنبياء المذكورين، فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ أي: اتبع آثارهم، والمراد بهديهم: ما توافقوا عليه من التوحيد وأصول الدين، دون الفروع المختلف فيها، فإنها ليست هدى مضافًا إلى الكل، ولا يمكن التأسِّي بهم جميعًا فليس فيه دليل على أنه عليه الصلاة السلام متعبّد بشرع مَن قبله. قاله البيضاوي.
قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أي: التبليغ أو القرآن، أَجْراً أي: جُعلاً من جهتكم، كحال الأنبياء قبلي اقتداء بهم فيه، فهو من جملة ما أمر بالاقتداء بهم فيه، إِنْ هُوَ أي: ما هو، أي: التبليغ أو القرآن، إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ إلا تذكرة وموعظة لهم.
الإشارة: فُضَّل هؤلاء السادات على أهل زمانهم بما هداهم إليه من أنوار التوحيد وأسرار التفريد، وبما خصهم به من كمال العبودية والآداب مع عظمة الربوبية. وفي قوله لحبيبه: فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ فتح لباب اكتساب التفضيل، فكلَّ مَن اقتدَى بهم فيما ذُكر شُرِّف على أهل زمانه، وقد جمع فى حبيبه صلّى الله عليه وسلّم ما افترق فيهم، وزاد عليهم بالمحبة ورفع الدرجات، فكان هو سيد الأولين والآخرين، فكل من اقتدى به في أفعاله وأقواله وأخلاقه نال من السيادة بقدر اقتدائه، وأمرُه سبحانه له بالاقتداء بهم، إنما هو في الآداب، وكان ذلك قبل أن يتَرقَّى عنهم إلى مقامه الذي خصّه الله به. فإن للأنبياء سيرًا وتَرَقِّيَا يليق بهم. كما للأولياء سيرٌ وتَرَقٍّ يليق بهم.
قال الورتجبي: أمر حبيبه- عليه الصلاة والسلام- بالاقتداء بالأنبياء والرسل قبلَه في آداب الشريعة، لأن هناك منازلَ الوسائط، فإذا أوصله بالكُلِّية إليه، وكَحّل عيون أسراره بكُحل الربوبية، جعَله مستقلاً بذاته مستقيمًا بحاله، وخرج عن حَدِّ الإرادة إلى حد المعرفة والاستقامة، وأمره بإسقاط الوسائط، حتى قال:«لَو كَانَ مُوسَى حَيًا ما وَسِعَهُ إلاَّ اتّبِاعي» ، وغير ذلك. هـ. وقال الشاذلى رضى الله عنه: أمَره بالاقتداء بهم فيما شاركوه فيه، وإن انفرد عنهم بما خُصَّ به. هـ.