للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ استواء يليق به، والعرش: جسم عظيم محيط بالأكوان. سمي به لارتفاعه، وللتشبيه بسرير الملك، فالأكوان في جوفه ممحوقة فقد استولى عليها ومحقها، كذلك أسرار معاني الربوبية الأزلية قد استولت عليه ومحقته، فيمكن أن يكون الحق تعالى عبَّر بالاستواء عن هذا الاستيلاء، وسيأتي في الإشارة تمامه إن شاء الله.

وقال القشيري: ثم استوى على العرش، أي: تَوَحَّدَ بجلال الكبرياء بوصف الملكوت، وملوكنا إذا أرادوا التجلِّي والظهور للحَشَم والرعية برزوا لهم على سرير مُلكِهم في إيوان مشاهدتهم. فأخبر الحقُّ- سبحانه وتعالى- بما يَقرُب من فَهم الخلقِ، بما ألقى إليهم من هذه الكلمات، بأنه استوى على العرش، ومعناه: اتصافه بعز الصمدية وجلال الأحدية، وانفراده بنعت الجبروت وجلاء الربوبية، وتقدَّس الجبَّارُ عن الأقطار، والمعبودُ عن الحدود. هـ.

يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ أي: يُغطي نور النهار بظلمةِ الليل، يَطْلُبُهُ حَثِيثاً أي: يعقبه سريعًا كالطالب له، لا يفصل بينهما شىء، وَخلق الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أي: بقضائه وتصريفه، ومن عجائب تسخيرها أن جعلها مقرونة بأمور غيبية، دالة على ظهور شيء منها.

والنهي عن النظر في النجوم أو تصديق المنجمين إنما هو لمن اعتقد التأثير لها مستقلة بنفسها، أو تصديقهم في تفصيل ما يخبرون به لأنهم إنما يقولون ذلك عن ظن وتخمين وجهل، فإنَّ عِلم النجوم كان معجزة لبعض الأنبياء، ثم اندرس ذلك العلم، فلم يبق إلا ما هو مختلط، لا يتميز فيه الصواب من الخطأ، فاعتقاد كون الكواكب أسبابًا لآثار يخلق الله- تعالى- بها في الأرض، وفي النبات والحيوان شيئًا، يعني في الجملة ليس قادحًا في الدين، بل هو الحق، ولكن دعوى العلم بتلك الآثار على التفصيل مع الجهل: قادح في الدين، فالكواكب ما خلقت عبثًا، ولهذا نظر عليه الصلاة والسلام إلى السماء، وقرأ قوله تعالى: رَبَّنا مَا خَلَقْتَ هذا باطِلًا ... الآية «١» .

انظر: الإحياء للغزالي.

ثم قال تعالى: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ أي: الإيجاد والتصرف بالأمر والنهي، تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ أي: تعاظم في ألوهيته، وتعالى في ربوبيته، وتفرد في وحدانيته.

قال البيضاوي: (وتحقيق الآية- والله أعلم- أن الكفرة كانوا متخذين أربابًا، فبيَّن لهم أن المستحق للربوبية واحد- وهو الله تعالى لأنه الذي له الخلق والأمر، فإنه تعالى خلق العالَم على ترتيب قويم، وتدبير حكيم فأبدع الأفلاك العلوية، والأجرام السفلية، ثم بعد تمام خلق عالَم الملك أخذ في تدبيره كالملِكِ الجالس على عرشه


(١) الآية ١٩١ من سورة آل عمران.

<<  <  ج: ص:  >  >>