وهي حياته القديمة الأزلية الباقية، المنزهة عن همهمة الأنفاس والمشابهة والقياس- فقامت الأشياء بصفاته القائمة بذاته، ويكون إلى الأبد لحياتها بروح حياته، المقدسة عن الاتصال والانفصال. قلت: وهي المعبَّر عنها بالمعاني القائمة بالأواني. ثم قال: وفي أدق الإشارة: السموات: الأرواح، والأرض: الأشباح، والعرش: القلوب، بدأ بكشف الصفات للأرواح، وبدأ بكشف الأفعال للأشباح، ثم بدأ بكشف الذات للقلوب لأن مناظر القلوب للغيوب، والغيوب من القلوب محل تجلّي استواء القدم، استوى قهر القدم، بنعت الظهور للعدم، أي: فتلاشى العدم، ثم استوى تجلّي الصفات على الأفعال، واستوى تجلّي الذات على الصفات، فاستوى بنفسه لنفسه، المنزه عن المباشرة بالحدثان والاتصال والانفصال عن الأكوان. قلت: أي: إذ لا حدثان ولا أكوان لأنها لما قرنت بالقدم تلاشت، وما بقي إلا نعت القدم.
ثم قال: خصَّ السموات والأرض بتجلي الصفات، وخص العرش بتجلي الذات. قلت: لأن المعاني المستولية على العرش باقية على أصلها، وهي أسرار الذات لم تتَرَدَّ برداء الكبرياء، وهو حجاب الحس الظاهر، بخلاف المعاني القائمة بالأواني، وهي أنوار الصفات، تجلت مرتدية بحجاب القهرية، فقيل لها: تجلي الصفات.
ثم قال: السموات والأرض جسد العالم، والعرش قلب العالم، والكرسي دماغ العالم، خص الجميع بالأفعال والصفات، وخص العرش بظهور الذات لأنه قلب الكل، وهو غيب الرحمن وعلمه وحكمته، رأيته في المكاشفة أنوارًا شعشعانيًا، بلا جسم ولا مكان ولا صورة، يتلألأ، فسألت عن ذلك، فقيل لي: هذا عالم يسمى عرشًا. انتهى.
قلت: وأقرب من هذا كله: أن العرش قد استولى على ما في جوفه من العوالم، حتى صارت في وسطه كلا شيء، ومعاني أسرار الربوبية، وهي العظمة الأصلية- قد استولت عليه، وأحاطت به، ومحت وجوده، فعبَّر الحق- جل جلاله- عن استيلاء هذه العظمة- التي هي أسرار الربوبية- على العرش بالاستواء. وإلى هذا أشار في الحكم العطائية بقوله:«يا مَن استوى برحمانيته على عرشه، فصار العرش غيباً في رحمانيته، كما صارت العوالم غيبًا في عرشه، محققت الآثار بالآثار، ومحوت الآثار- وهي العرش وما احتوى عليه- بمحيطات أفلاك الأنوار» وهي أسرار الذات المحيطات بالآثار، من العرش إلى الفرش، فعبّر عن المعاني المستولية على العرش بالرحمانية لأن الرحمانية صفة الذات، والصفة لا تُفارق الموصوف، فافهم.
قلت: ومن كحل عينه بإثمد توحيد الذات لا يستبعد أن يكون الحق- جل جلاله- يتجلى بتجل خاص من أسرار ذاته وأنوار صفاته، يستوي بتلك العظمة على العرش، كما يتجلّى يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده، إذ تجلياته لا تنحصر، بل كل ما ظهر في عالم الشهادة فإنما هو نور من تجلّي ذاته وصفاته. وهذا القدر كاف لمن شم شيئًا