وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ عبارة عما منعت منه شريعتهم، كتحريم الشحوم، وتحريم العمل يوم السبت، وشبه ذلك. فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ أي: منعوه وحفظوه من عدوه، حتى لا يقوى عليه، أو عظموه بالتقوية حتى انتصر، وأصله: المنع، ومنه التعزير، وَنَصَرُوهُ حتى أظهروا دينه في حياته وبعد مماته، وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ وهو القرآن، وإنما سماه نورًا لأنه بإعجازه ظاهر أمره ومظهر غيره، أو لأنه كاشف للحقائق مظهر لها. أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون بالرحمة الأبدية، وهذا آخر جواب سيدنا موسى عليه السلام.
الإشارة: قوله تعالى وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، قال القشيري: لم يُعَلَّقها بالمشيئة- يعني: كما قال في العذاب- لأنها نفس المشيئة، ولأنها قديمة، والإرادة لا تتعلق بالقديم، فلمَّا كان العذاب من صفات الفعل علَّقه بالمشيئة، بعكس الرحمة لأنها من صفات الذات. ويقال في قوله تعالى: وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ: مجالٌ لآمال العُصَاة لأنهم، وإن لم يكونوا من جملة المطيعين العابدين والعارفين، فهم «شيء» . هـ.
قلت: وبهذا العموم تشبث إبليس في قضية له مع سهل، وذلك أنه لما تراءى له، ضحك، فقال له: كيف تضحك وقد أبلست من رحمة الله؟ فقال له: قال تعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ وأنا شيء، فسكت سهل، ثم تذكر تمام الآية، فقال: قال تعالى: فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ، فهي مُقيدة لا مطلقة، فقال له: التقوى فعل العبد، والرحمة صفة الرب، ولا يتغير وصف الحق بفعل العبد، فعجز سهل. قلت: والجواب: أن إبليس جاء من جهة الفرق، ولو نظر للجمع لوجد الرحمة وصفه، والتقوى فعله، وفعله يغير وصفه، والكل منه وإليه. والله تعالى أعلم.
وقال الورتجبي: جميع الخلائق مستغرقون في بحر الرحمة، لأن إيجاد الحق إياهم، على أي وصف كانوا، عين رحمته، حيث دخلوا تحت نظره وسلطانه وربوبيته، ومباشرة قدرته فيهم، ثم إن الخلق بالتفاوت في الرحمة فالجمادات مستغرقة في نور فعله، وهي الرحمة الفعلية، والحيوانات مستغرقة في نور صفاته، وهي الرحمة الصفاتية، والعقلاء من الجن والإنس والملائكة مستغرقون في نور ذاته، وهي الرحمة القديمة الذاتية من جهة تعريفهم ربوبيته ووحدانيته، وهم من جهة الأجسام وما يجري عليها، في الرحمة العامة، ومن جهة الأرواح وما يجري عليها، في الرحمة الخاصة، وهم فيها بالتفاوت، فبعضهم في رؤية العظمة ذابوا، وبعضهم في رؤية القدم والبقاء تاهوا، وبعضهم في رؤية الجلال والجمال عشقوا وطاشوا، ومن خرج من مقام الرحمة إلى أصل الصفة، ومن الصفة إلى أصل الذات استغرق في الراحم، وفنى عن الرحمة، فصار رحمة للعالمين، وهذا وصف نبينا- عليه الصلاة والسلام-، لأنه وصل بالكل إلى الكل، فوصفه برحمة الكل بقوله: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ «١» ، ثم خص رحمته الخاصة الصفاتية، بعد أن عم الكل برحمته العامة للمنفردين بالله عن غير الله، القانتين بعظمته في عظمة الذين بذلوا وجوههم لحق ربوبيته عليهم بقوله: فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ.... هـ.