غيره لم يعرف نفسه وقد وصفها الله تعالى بالدخول والخروج، والقبض والتّوفيّ والرجوع، وصعودها السماء وفتح أبوابها وغلقها عنها، وقد ذكرت آيات وأحاديث كثيرة تشهد بما قاله» .
ثم قال:«وأما إخباره صلّى الله عليه وسلم عن رؤية الأنبياء ليلة الإسراء به، فقد زعم بعض أهل الحديث أن الذي رآه أشباحهم وأرواحهم. قال: فإنهم أحياء عند ربهم يرزقون. وقد رأى المصطفى إبراهيم مسندا ظهره إلى البيت المعمور ورأى موسى قائما في قبره يصلي، وقد نعت الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لما رآهم بنعت الأشباح» .
ونازعهم آخرون وقالوا: هذه الرواية إنما هي لأرواحهم دون أجسادهم، والأجساد في الأرض قطعا وإنما تبعث يوم تبعث الأجساد، ولا تبعث قبل ذلك، إذا لو بعثت قبل ذلك لكانت قد انشقّت عنهم الأرض قبل يوم القيامة، وكانت تذوق الموت عند نفخة الصور، وهذه موتة ثالثة وهذا باطل قطعا، ولو كانت قد بعثت الأجساد من القبور لم يعدهم الله تعالى إليها، بل كانت في الجنة وقد صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله إن الله تعالى حرّم الجنة على الأنبياء حتى يدخلها هو، فهو أول من يستفتح باب الجنة، وأول من تنشق عنه الأرض على الإطلاق، ولم تنشق عن أحد قبله، ومعلوم بالضرورة أن جسده صلى الله عليه وسلم في الأرض طري.
وقد سأله أصحابه: كيف تعرض عليك صلاتنا وقد بليت؟ فقال:«إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء»
[ (١) ] ولو لم يكن جسده في ضريحه طريا لما أجاب بهذا الجواب. وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى وكلّ بقبره ملائكة يبلّغونه عن أمته السلام، وصحّ عنه صلى الله عليه وسلم لما خرج بين أبي بكر وعمر قال:«هكذا نبعث» .
هذا مع القطع بأن روحه الكريمة في الرفيق الأعلى في أعلى علّيّين مع أرواح الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم. وقد صح أنه رأى موسى عليه السلام قائما يصلي في قبره ليلة الإسراء ورآه في السماء السادسة أو السابعة، فالروح كانت هناك ولها اتصال بالبدن في القبر وإشراق عليه وتعلّق به بحيث تصلي في قبره وتردّ سلام من سلم عليه وهو في الرفيق الأعلى.
ولا تنافي بين الأمرين فإن شأن الأرواح غير شأن الأبدان، فأنت تجد الروحين المتلائمتين المتناسبتين في غاية التجاور والقرب وإن كان بين بدنيهما غاية البعد، وتجد الروحين المتنافرتين المتباغضتين في غاية البعد وإن كان جسداهما متجاورين متلاصقين، وليس نزول الروح وصعودها، وقربها وبعدها من جنس ما للبدن فهي تصعد إلى فوق سبع سموات ثم تهبط إلى الأرض ما بين قبضها ووضع الميت في قبره، وهو زمن يسير لا يصعد
[ (١) ] أخرجه أبو داود في كتاب الجمعة باب (١) وابن ماجة (١٠٨٥) وأحمد في المسند ٤/ ٨ والبيهقي في السنن ٣/ ٢٤٩ والحاكم في المستدرك ٤/ ٥٦٠ والطبراني في الكبير وابن حبان (٥٥) .