للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

على قبول المحلّ وتوقّف أهليّة الفاعل، فهنا لا توقّف من جهة الفاعل ولا من جهة ذات النبي صلى الله عليه وسلّم الشريفة، وإنما هو من جهة وجود العصر المشتمل عليه، فلو وجد في عصرهم لزمهم إتباعه بلا شك، ولهذا يأتي عيسى صلى الله عليه وسلم في آخر الزمان على شريعته صلى الله عليه وسلم، وهو نبيّ كريم، لا كما يظنّ بعض الناس أنه يأتي واحداً من هذه الأمة، نعم هو واحد من هذه الأمة لما قلنا من إتباعه للنبي صلى الله عليه وسلم، وإنما يحكم بشريعة نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلّم بالقرآن والسنة، فكل ما فيهما من أمر ونهي فهو متعلق به كما يتعلّق بسائر هذه الأمة، وهو نبيّ كريم على حاله لم ينقص منه شيء ولذلك لو بعث النبي صلى الله عليه وسلم في زمانه أو زمان موسى وإبراهيم ونوح وآدم كانوا مستمرّين على نبوّتهم ورسالتهم إلى أممهم، والنبي صلى الله عليه وسلّم نبي الله ورسوله إلى جميعهم، فنبوّته ورسالته أعمّ وأشمل وأعظم، ويتفق مع شرائعهم في الأصول لأنها لا تختلف، وتقدم شريعته فيما عساه يقع الاختلاف فيه من الفروع، إما على سبيل التخصيص وإما على سبيل النّسخ أو لا نسخ ولا تخصيص بل تكون شريعة النبي في تلك الأوقات بالنسبة إلى تلك الأمم مما جاءت به أنبياؤهم، وفي هذا الوقت بالنسبة إلى هذه الأمة الشريفة، والأحكام تختلف باختلاف الأشخاص والأوقات. انتهى كلامه رضي الله تعالى عنه وأرضاه.

فإن قيل: قال الله سبحانه وتعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ.

فالجواب: بأن هداهم من الله وهو شرعه صلى الله عليه وسلم، أي الزم شرعك الذي ظهر به نوّابك، من إقامة الدين وعدم التفرقة فيه ولم يقل الله بهم اقتده وكذا قال تعالى: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وهو الدين، فهو صلى الله عليه وسلّم مأمور بإتباع الدين، فإن أصل الدين إنما هو من الله تعالى لا من غيره، وأين هذا من قوله صلى الله عليه وسلم: «لو كان موسى حيّاً ما وسعه إلا أن يتبعني» فأضاف الإتباع إليه، وأمر هو صلى الله عليه وسلم باتباع الدين لا باتباع الأنبياء، فإن السلطان الأعظم إذا حضر لا يبقى لنائب من نوّابه حكم إلا له، فإذا غاب حكم النّواب بمراسيمه، فهو الحاكم في الحقيقة غيبة وشهادة.

فإنّك شمس والملوك كواكب ... إذا ظهرت لم يبد منهنّ كوكب

[ (١) ] وقد أشار إلى ذلك المعنى البوصيريّ [ (٢) ] ، وتوفي قبل مولد السّبكي رحمهما الله تعالى:


[ (١) ] القصيدة مطلعها:
أتاني- أبيت اللعن- أنك لمتني ... وتلك التي أهتم منها وأنصب
انظر ديوان النابغة ص ٧٣، وأسرار البلاغة ١٢٧، والعقد الفريد ٢/ ٢٢.
[ (٢) ] محمد بن سعيد بن حمّاد بن عبد الله الصنهاجي البوصيري المصري، شرف الدين، أبو عبد الله: شاعر، حسن الديباجة، مليح المعاني، ووفاته بالإسكندرية. له «ديوان شعر» توفي سنة ٦٩٦ هـ، الأعلام ٦/ ١٣٩، وفوات الوفيات ٢/ ٢٠٥.