للطائعين وشفيعا للعاصين، أو شهيدا لمن مات في حياته، شفيعا لمن مات بعده، أو غير ذلك مما الله أعلم به، وهذه خصوصية زائدة على الشفاعة لكافة المذنبين، وعلى الشهادة لكافة الأمة،
وقد قال صلى الله عليه وسلم في شهداء أحد:«أنا شهيد على هؤلاء» ،
فيكون في تخصيصهم زيادة منزلة، وقد تكون «أو» بمعنى الواو، فيكون لأهل المدينة شهيدا وشفيعا بالشفاعة العامة. وإن جعلنا «أو» للشك كما ذهب إليه بعضهم، فإن كانت اللفظة الصحيحة فلا إشكال، إذ هي زائدة على الشفاعة المدّخرة، وإن كانت الصحيحة شفيعا فاختصاص أهل المدينة بهذا مع ما جاء في عمومها وادخاره لجميع الأمة أن هذه شفاعة أخرى غير العامة التي هي لإخراج أمته من النار وإخراج بعضهم منها بشفاعته صلى الله عليه وسلّم يوم القيامة، وتكون هذه الشفاعة لأهل المدينة زيادة في الدرجات أو تخفيف الحساب بما شاء الله من إكرامهم يوم القيامة بأنواع من الكرامة.
الثاني: قوله صلّى الله عليه وسلم: «تنفي الناس» ، وفي لفظ «الرجال» ، قال القاضي:«كان هذا يختص بزمنه لأنه لم يكن يصبر على الهجرة والمقام معه بها إلا من ثبت إيمانه» . وقال النووي:«ليس هذا بظاهر لأن عند مسلم لا تقوم الساعة حتى تنفي المدينة شرارها كما ينفي الكير خبث الحديد، وهذا والله أعلم زمن الدّجّال» . قال الحافظ:«ويحتمل أن يكون المراد كلّا من الزمانين، وكان الأمر في حياته صلى الله عليه وسلم السبب المذكور، ويؤيّده قصّة الأعرابي الذي استقاله فإنه صلى الله عليه وسلم ذكر هذا الحديث معلّلا به خروج الأعرابي وسؤاله الإقالة من البيعة، ثم يكون ذلك أيضا آخر الزمان، عند ما ينزل الدّجّال فترجف الأرض بأهلها فلا يبقى منافق ولا كافر إلا خرج إليه» .
وقال السيد:«وقد أبعد الله عنها أرباب الخبث الكامل وهم الكفّار، وأما غيرهم فقد يكون إبعاده إن مات بها بنقل الملائكة له كما أشار إليه الأقشهري أو المراد إبعاد أهل الخبث الكامل فقط وهم أهل الشقاء والكفر لا أهل السعادة والإسلام لأن القسم الأول ليس قابلا للشفاعة ولا للمغفرة، أو المراد فيما عدا قصّة الأعرابي والدّجّال أنها تخلّص النفوس من شرّها وظلمات ذنوبها، بما فيها من اللأواء والمشقات ومضاعفة المثوبات وتوالي الرحمات، وقد قال تعالى: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ [هود ١١٤] ، ويحتمل أن يكون بمعنى أنه لا يخفى حال من انطوى فيها على خبث بل تظهر طويته كما هو مشاهد بها، ولم أر إلى الآن من نصّ على هذا الاحتمال وهو في حفظي قديما ويؤيده ما في غزوة أحد في الصحيح من أنه صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى أحد رجع ناس من أصحابه أي وهم المنافقون
فقال صلى الله عليه وسلم: «المدينة كالكير»
(الحديث) ، والذي ظهر لي من مجموع الأحاديث واستقراء أحوال هذه البلدة الشريفة أنها تنفي خبثها بالمعاني الأربعة» .