للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قال البيهقىّ: وفي مثل هذا المعنى قوله تعالى: وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ، الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [النحل ٤١، ٤٢] ذكر بعض أهل التّفسير أنها نزلت في المعذّبين بمكة حين هاجروا إلى المدينة بعد ما ظلموا، فوعدهم الله تعالى في الدّنيا حسنة، يعني بها الرزق الواسع، فأعطاهم ذلك. فيروى، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه كان إذا أعطى الرجل عطاءه من المهاجرين يقول: خذ بارك الله لك فيه، هذا ما وعدك الله تبارك وتعالى في الدنيا، وما ادّخر لك في الآخرة أفضل. انتهى.

وكانت اليهود والمشركون من أهل المدينة يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فأمرهم الله تبارك وتعالى بالصّبر والعفو والصّفح، فقال تبارك وتعالى: وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [آل عمران ١٨٦] أي قطعه قطع إيجاب وإلزام، وهو من التّسمية بالمصدر، أي من معزومات الأمور. وقال عز وجل: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ [البقرة ١٠٩] أي أن محمدا رسول الله يجدونه مكتوباً عندهم في التَّوراة والإنجيل، فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ، أي الإذن بقتالهم وضرب الجزية عليهم.

وروى أبو داود وابن المنذر والبيهقي عن كعب بن مالك رضي الله عنه، قال: «كان المشركون واليهود من أهل المدينة حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أشد الأذى، فأمرهم الله تعالى بالصبر على ذلك والعفو عنهم. وروى الشيخان وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب» [ (١) ] ، يتأوّل في العفو ما أمره الله تعالى به حتى أذن الله تعالى فيهم، فقتل من قتل من صناديد قريش.

قال العلماء: فلمّا قويت الشوكة واشتدّ الجناح أذن لهم حينئذ في القتال ولم يفرضه عليهم، فقال تبارك وتعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ.

الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ، وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً. وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج ٣٩، ٤٠] .


[ (١) ] أخرجه البخاري ٨/ ٨٤ (٦٢٠٧) .