عمر، ومسلم والنسائي وابن حبان عن أبي هريرة، وابن ماجة عن معاذ، رضي الله عنهم أجمعين: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وأن يستقبلوا قبلتنا، ويؤتوا الزّكاة، ويأكلوا ذبيحتنا، ويصلّوا صلاتنا، فإذا فعلوا ذلك فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها، لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، وحسابهم على الله، قيل: وما حقها؟ قال: زنا بعد إحصان، أو كفر بعد إسلام، أو قتل نفس فيقتل بها» [ (١) ] .
ثم كان الكفار معه صلّى الله عليه وسلم بعد الهجرة ثلاثة أقسام: قسم صالحهم، ووادعهم على ألا يحاربوه ولا يظاهروا عليه عدوّه، وهم على كفرهم آمنون على دمائهم وأموالهم، وقسم حاربوه ونصبوا له العداوة، وقسم تاركوه فلم يصالحوه ولم يحاربوه، بل انتظروا ما يؤول إليه أمره وأمر أعدائه. ثم من هولاء من كان يحب ظهوره وانتصاره في الباطن، ومنه من كان يحب ظهور عدوّه عليه وانتصارهم، ومنهم من دخل معه في الظّاهر وهو مع عدوه في الباطن، ليأمن على نفسه من الفريقين، وهؤلاء هم المنافقون، فعامل صلى الله عليه وسلم كلّ طائفة من هذه الطوائف بما أمره ربه تبارك وتعالى، فصالح يهود المدينة وكتب بينه وبينهم كتاب أمن، وكانوا ثلاث طوائف حول المدينة: بني قينقاع وبني النّضير وبني قريظة، فنقض العهد الجميع، وكان من أمرهم ما سيأتي في الغزوات، وأمره الله سبحانه وتعالى أن يقيم لأهل العقد والصلح بعدهم، وأن يوفّي لهم به ما استقاموا على العهد، فإن خاف منهم خيانة نبذ إليهم عهدهم ولم يقاتلهم حتى يعلمهم بنبذ العهد، وأمره أن يقاتل من نقض عهده.
ولمّا نزلت سورة «براءة» نزلت ببيان هذه الأقسام كلّها، فأمره الله تعالى أن يقاتل عدوّه من أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية أو يدخلوا في دين الإسلام، وأمره بجهاد الكفّار والمنافقين والغلظة عليهم، فجاهد الكفار بالسيف والسّنان، والمنافقين بالحجة واللسان، وأمره فيها بالبراءة من عهود الكفار ونبذ عهودهم، وجعل أهل العهد في ذلك ثلاثة أقسام: قسم أمره بقتالهم، وهم الذين نقضوا عهده ولم يستقيموا له، فحاربهم وظهر عليهم، وقسم لهم عهد مؤقت لم ينقضوه ولم يظاهروا عليه، فأمره أن يتم لهم عهدهم إلى مدّتهم، وقسم لم يكن لهم عهد ولم يحاربوه، وكان لهم عهد مطلق، فأمره أن يؤجّلهم أربعة أشهر، فإذا انسلخت الأربعة قاتلهم، وهي الأشهر الأربعة المذكورة في قوله تعالى: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ
[ (١) ] أخرجه البخاري ١/ ٧٥ (٢٥) ومسلم ١/ ٥٣ (٣٦- ٢٢) والترمذي (٢٦٠- ٢٦٠٦) وابن ماجة (٧١) والنسائي ٧/ ٧٥ وأحمد في المسند ٢/ ٣٤٥ والدارمي ٢/ ٢١٨ والبيهقي في السنن ١/ ٨٤ والحاكم ١/ ٣٨٦ والطبراني في التفسير ١٥/ ٥٨ وعبد الرزاق (٦٩١٦) والطبراني في الكبير ٢/ ٣٤٧ والدارقطني ٢/ ٨٩.