وإن تقاربا لفظا ومعنى فليس ببعيد من أن يكون الثاني أجود من الأول، لأنه أكثر انتفاء من الجبن ومن خوف القتل، وإنما علّل فراره بعدم إفادة وقوفه فقط، وذلك في الأول جزء علّته، والجزء الآخر قوله: أقتل، وقوله: رموا مهري بأشقر مزبد، يعني الدّم، ويحتمل أن يكون ذلك مقيّدا بكون مشهده لا يضرّ عدوّه، ومع ذلك فالثاني أسلم من ذلك معنى وأصرح لفظا ومعنى.
وقال حسّان أيضا:
قومي الّذين هم آووا نبيّهم ... وصدّقوه وأهل الأرض كفّار
إلّا خصائص أقوام هم سلف ... للصّالحين مع الأنصار أنصار
مستبشرين بقسم الله قولهم ... لمّا أتاهم كريم الأصل مختار
أهلا وسهلا ففي أمن وفي سعة ... نعم النّبيّ ونعم القسم والجار
فأنزلوه بدار لا يخاف بها ... من كان جارهم دارا هي الدّار
وقاسموهم بها الأموال إذ قدموا ... مهاجرين وقسم الجاحد النّار
سرنا وساروا إلى بدر لحينهم ... لو يعلمون يقين العلم ما ساروا
دلّاهم بغرور ثمّ أسلمهم ... إنّ الخبيث لمن والاه غدّار
وقال: إنيّ لكم جار، فأوردهم ... شرّ الموارد فيه الخزي والعار
ثمّ التقينا فولّوا عن سراتهم ... من منجدين ومنهم فرقة غاروا
وقالت عاتكة بنت عبد المطلب عمة النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الطبراني عن مصعب بن عبد الله وغيره من قريش، ورواه الأمويّ عن سعيد بن قطن:
ألمّا تكن رؤياي حقّا ويأتكم ... بتأويلها فلّ من القوم هارب
رأى فأتاكم باليقين الّذي رأى ... بعينيه ما تفري السّيوف القواضب
فقلتم- ولم أكذب- كذبت، وإنما ... يكذبني بالصّدق من هو كاذب
وما فرّ إلّا رهبة الموت هاربا ... حكيم وقد أعيت عليه المذاهب
أقرّ صياح القوم عزم قلوبهم ... فهنّ هواء والحلوم عوازب
أقامت سيوف الهند دون رؤوسكم ... وخطّيّة فيها الشّبا والثّعالب
كأنّ حريق النّار لمع ظباتها ... إذا ما تعاطتها اللّيوث المشاغب
ألا بأبي يوم اللّقاء محمّدا ... إذا عضّ من عون الحروب الغوارب
مروا بالسّيوف المرهفات نفوسكم ... كفاحا كما تمري السّحاب الجنائب
فكم بردت أسيافهم من مليكة ... وزعزع ورد بعد ذلك صالب