الملوك: كسرى وقيصر والنجاشي وإني والله ما رأيت ملكا قط أطوع فيما بين ظهرانيه من محمد في أصحابه، والله إن رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا، وليس بملك والله ما تنخّم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم بأمر ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه أيّهم يظفر منه بشيء، ولا يسقط شيء من شعره إلّا أخذوه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون النظر إليه تعظيما له، ولا يتكلّم رجل منهم حتى يستأذن، فإن هو أذن له تكلم، وإن لم يأذن له سكت، وقد عرض عليكم خطّة رشد فاقبلوها، قد حرزت القوم، واعلموا أنكم إن أردتم منهم السيف بذلوه لكم، وقد رأيت قوما لا يبالون ما يصنع بهم إذا منعتم صاحبهم، والله لقد رأيت معه نساء ما كنّ ليسلمنه أبدا على حال، فروا رأيكم فأتوه يا قوم، واقبلوا ما عرض عليكم، فإني لكم ناصح، مع إني أخاف أن لا تنصروا على رجل أتى زائرا لهذا البيت معظّما له، معه الهدى ينحره وينصرف، فقالت قريش: لا تتكلم بهذا يا أبا يعفور، أو غيرك تكلم بهذا؟ ولكن نردّه عامنا هذا، ويرجع إلى قابل، فقال: ما أراكم تصيبكم قارعة. فانصرف هو ومن تبعه إلى الطّائف.
فقام الحليس وهو بمهملتين- مصغّر- ابن علقمة الكناني وكان من رؤوس الأحابيش ولا أعلم له إسلاما فقال: دعوني آتيه. فقالوا: ائته. فلما أشرف على رسول الله- صلى الله عليه وسلم-
قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «هذا فلان من قوم يعظّمون البدن وفي لفظ «الهدى، ويتألّهون، فابعثوها له» فبعثت له، فلما رأى الهدي يسيل عليه من عرض الوادي عليها قلائدها، قد أكلت أوبارها من طول الحبس، ترجّع الحنين، واستقبله الناس يلبّون قد أقاموا نصف شهر، وقد تفلوا وشعثوا، صاح وقال: سبحان الله «ما ينبغي لهؤلاء أن يصدّوا عن البيت أبى الله أن تحج لخم وجذام وكندة وحمير ويمنع ابن عبد المطلب، ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت هلكت قريش وربّ الكعبة. إنّ القوم إنما أتوا عمّارا، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- «أجل يا أخا بني كنانة» .
وذكر ابن إسحاق ومحمد بن عمر، وابن سعد: أنه لم يصل إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- لمّا رأى ذلك إعظاما لما رأى فيحتمل إن رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- خاطبه من بعد، فرجع إلى قريش فقال: إني رأيت ما لا يحل منعه، رأيت الهدي في قلائده قد أكل أوباره معكوفا عن محلّه والرّجال قد تفلوا وقملوا أن يطوفوا بهذا البيت، والله ما على هذا حالفناكم، ولا عاقدناكم، على أن تصدوا عن البيت من جاءه معظّما لحرمته مؤدّيا لحقه. وساق الهدى معكوفا أن يبلغ محلّه. والذي نفسي بيده لتخلّنّ بينه وبين ما جاء له، أو لأنفرنّ بالأحابيش نفرة رجل واحد.
فقالوا: كفّ عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به، وفي لفظ اجلس فإنما أنت أعرابي لا علم لك، كلّ ما رأيت من محمد مكيدة.