واحتجوا بأن طريق العلم بكونه- صلى الله عليه وسلّم- متّبعا في عبادة ربه قبل أن يوحى إليه بشرع النقل هو توارد الخبر على ألسنة النّقلة إلينا، وحجته: إنه لو كان ذلك قد وقع لنقل إلينا، ولو كان لنقل ذلك، ولما أمكن كتمه وستره في العادة، إذ كان نقله وعدم كتمه من مهم أمره وأولى ما احتفل به لكونه من سيرته ولقال به أهل تلك الشريعة، ولاحتجوا عليه ولم يؤثر شيء من ذلك فعلم أنه لم يكن، وأيضا لو كان متبعا لشرع من قبله لفخر به أهل تلك الشريعة ولاحتجوا باتباعه شريعة من قبله، حتى ادعى النبوة، ولم يرو شيء من ذلك أصلا.
وذهبت طائفة إلى امتناع ذلك عقلا، قالوا: لأنه يبعد مع حكم العقل أن يكون متبوعا من علم من الأزل كونه تابعا له- صلى الله عليه وسلم- إذ الأنبياء مأمورون بالإيمان به والنصرة له، كما في قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ [آل عمران ٨١] بنوا قولهم بامتناع إتباعه- صلّى الله عليه وسلّم- شرعا قبل أن يوحى إليه، على طريقة التحسين والتقبيح العقليين، وهي طريقة غير سديدة، لبعد مسافتها من مأخذ الشّرع، ورفع قواعدها من شفا جرف هار.
والتعليل الأول وهو الاستناد إلى النقل أولى وأظهر.
وذهبت طائفة: منهم إمام الحرمين، والغزالي، والآمدي، إلى الوقفة في أمره- صلى الله عليه وسلم- وجنحوا إلى ترك قطع الحكم فلم يحكموا عليه بشيء، إذ لم يحل لوجهين منهما العقل لتساويهما عنده في الإمكان، ولاستبان عند هذه الطائفة القائلين بالوقف في أحد الوجهين طريق النقل، لعدم تساويهما في الإمكان فلم يكن أحدهما أولى بترجيح على الآخر.
وذهبت طائفة أخرى إلى أنه- صلى الله عليه وسلم- كان عاملا قبل أن يوحى إليه بشرع من قبله لبعد أن يكون متعبدا بغير شرع قبل بعثته، ثم اختلفت هذه الطائفة الثالثة: هل يتعين ذلك الشرع الذي زعموا أنه كان قبل أن يبعث عاملا به أم لا؟ فوقف بعضهم عن تعيينه، وأحجم- أي نكص فهمه وهاب الجزم بتعيينه لفقد ما يجسره عليه، وجسر بعضهم على التعيين وصمم عليه.
ثم اختلفت هذه الفرقة المعينة، فيمن كان- صلى الله عليه وسلّم- يتبع دينه من الأنبياء، ويتعبد به قبل أن يبعث.
فقيل: آدم. وهو محكي عن ابن برهان، وقيل نوح، وقيل موسى. وقيل عيسى- صلى الله عليه وسلم عليهم- فهذه جملة المذاهب في مسألة تعبده- صلى الله عليه وسلم- قبل أن يبعث والأظهر ما ذهب إليه القاضي ومن تبعه، وبعدها مذهب المعينين إذ لو كان شيء من ذلك لنقل إلينا، وأحطنا به خبرا، ولم يخف على أحد ولا حجة لهم من أن عيسى- صلى الله عليه وسلم- آخر الأنبياء فلزمت