للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

شريعته من كان بعدها، إذ لم يثبت عموم دعوة عيسى- صلى الله عليه وسلم- فلا يلزم شريعته من جاء بعدها لعدم أمرهم باتباعها، بل الصحيح أنه لم يكن لنبي من الأنبياء- صلوات الله وسلامه عليهم- دعوة عامة لكافة الناس إلا لنبينا- صلى الله عليه وسلم.

وأما من قال: إنه- صلى الله عليه وسلم- كان على شريعة إبراهيم وليس له شرع متعبد به، وأن المقصود من بعثته- صلى الله عليه وسلّم- إحياء شرع إبراهيم- صلى الله عليه وسلّم- وعوّل في إثبات مذهبه على قوله تبارك وتعالى: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [النحل ١٢٣] فهذا قول ساقط مردود، ولا يصدر مثله إلا عن سخيف العقل كثيف الطبع.

وإنما المراد بهذه الآية: الاتباع في التوحيد. لأنه لما وصف إبراهيم عليه الصلاة والسلام في هذه الآية بأنه ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فلما قال: اتبع كان المراد ذلك.

ولا حجة أيضا للقائل باتباعه شرع نوح- صلى الله عليه وسلم- في قوله تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ [الشورى ١٣] فحمل هاتين الآيتين، على اتباعهم في التوحيد، لأنه لما وصف إبراهيم في الآية الأولى- بأنه ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فلما قال: أن اتبع، كان المراد بذلك، بشهادة تفسير المشرّع في الآية الثانية الذي اشترك فيه هؤلاء الأعلام من الرسل، بقوله تعالى: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ أي: دين الإسلام، الذي هو توحيد الله تعالى، وطاعته، والإيمان به وبرسله وكتبه وبيوم الجزاء، وسائر ما يكون به المكلف مكلفا إلا المشروع الذي هو مصالح الأمم لاختلاف أحوالهم وتفاوتها المؤذن به قوله تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً. وقوله تعالى: أُولئِكَ أي الذين ذكروا من الرسل وغيرهم هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ أي بطريقتهم لا بطريقة غيرهم بشهادة الإضافة في الإيمان بالله وتوحيده، وأصول الدين اقْتَدِهْ دون الشرائع لاختلافها، وهي هدى ما لم تنسخ، فإذا نسخت لم تبق هدى.

بخلاف أصول الدين فإنّها هدى أبدا، وقد سمى الله تعالى في آية الأنعام في الأنبياء- صلى الله عليهم وسلّم- من لم يبعث ولم تكن له شريعة تخصه كيوسف بن يعقوب- صلى الله عليه وسلم- وعلى آبائه على قولة من يقول: إنه ليس برسول.

فدل الأمر باقتدائه بهداهم، أن المراد به أصول الشرائع لا الشرائع نفسها. وسمى جماعة من الأنبياء فيها شرائعهم مختلفة، لا يمكن الجمع بينها فدل اختلافها أن المراد بهداهم ما اجتمعوا عليه من التوحيد وعبادة الله تعالى.

قال القاضي: وهل يلزم من قال: يمنع إتباعه- صلّى الله عليه وسلم- قبل أن يوحى إليه بشرع قبله هذا القول في سائر الأنبياء، فلا يكون أحد منهم قبل أن يوحى إليه بشرع قبله غير نبينا- صلى الله عليه وسلم- أو