وما قدروا على أن يأتوا بمقدار سورة توازيه وتدانيه، مع علمهم في مضادّته ومضارعته.
فصل: لما أثبت كون القرآن معجزة لنبينا صلى الله عليه وسلم وجب الاهتمام بمعرفة وجه الإعجاز، وقد خاض النّاس في ذلك كثيرا بين محسن ومسيء فزعم قوم أنّ التحدّي وقع بالكلام القديم الذي هو صفة الذّات وأنّ العرب كلّفت في ذلك ما لا يطاق، وبه وقع عجزها وهو مردود، لأن ما لا يمكن الوقوف عليه لا يتصوّر التحدي به والصّواب ما قاله الجمهور أنه وقع بالدّالّ على القديم الذي يوصف به الذّات، وأنّ العرب كلّفت في ذلك مالا يطاق، وهو الألفاظ، ثم زعم النظّام من «المعتزلة» أنّ إعجازه بالصّرفة أي أن الله تعالى صرف العرب عن معارضته وسلب عقولهم، وكان مقدورا لهم، لكن عاقهم أمر خارجي فصار كسائر المعجزات، وهذا قول فاسد، بدليل قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ [الإسراء/ ٨٨] الآية، فإنه على عجزهم مع بقاء قدرتهم، ولو سلبوا القدرة لم يبق لهم فائدة لاجتماعهم لمنزلة منزلة اجتماع الموتى، وليس عجز الموتى ممّا يحتفل بذكره، هذا مع أن الإجماع منعقد على أنّ الإضافة للإعجاز إلى القرآن، فكيف يكون معجزا، وليس فيه صفة إعجاز، بل المعجز هو الله تعالى، حيث سلبهم القدرة على الإتيان بمثله، وأيضا فيلزم من القول بالصّرفة زوال الإعجاز بزوال زمان التّحدّي وخلوّ القرآن من الإعجاز، وفي ذلك خرق إجماع الأمة، فإن معجزة رسول الله صلى الله عليه وسلم العظمى باقية ولا معجزة له باقية سوى القرآن، قال قاضي أهل الحقّ أبو بكر الباقلاني: وممّا يبطل القول بالصّرفة أنّه لو كانت المعارضة ممكنة، وإنما منع عنها الصّرف لم يكن الكلام معجزا، وإنّما يكون بالمنع معجزا فلا يتضمّن الكلام فضيلة على غيره في نفسه قال: وليس هذا بأعجب من قول فريق منهم أنّ الكلّ قادرون على الإتيان بمثله، وإنّما تأخّروا عنه لعدم العلم بوجه ترتيبه، ولو تعلّموه لوصلوا إليه به، ولا أعجب من قول آخرين أنّ العجز وقع منهم، وأما من بعدهم ففي قدرته الإتيان بمثله، وكلّ هذا لا يعتدّ به، ومن الأول قول القاضي أبي بكر: وجه إعجازه ما فيه من النّظم والتأليف والتّرصيف وأنه خارج عن جميع وجوه النّظم المعتاد في كلام العرب، ومباين لأساليب خطاباتهم، قال: ولهذا لم يمكنهم معارضته.
قال: ولا سبيل إلى معرفة إعجاز القرآن من أصناف البديع التي أودعوها في الشّعر، لأنّه ليس مما يخرق العادة، بل يمكن استدراكه بالعلم والتّدريب والتّصنّع به، كقول الشّعر ورصف الخطب، وصناعة الرسالة، والحذق في البلاغة، وله طريق تسلك، فأما شأو نظم القرآن فليس له مثال يحتذي عليه، ولا إمام يقتدى به، ولا يصح وقوع مثله اتّفاقا، ونحن نعتقد أنّ الإعجاز في بعض القرآن أظهر، وفي بعض أدقّ وأغمض.
وقال الإمام الرّازيّ: وجه الإعجاز الفصاحة، وغرابة الأسلوب، والسلامة من جميع العيوب.