للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أبو القاسم الجنيد رحمه الله تعالى: مشى رجال باليقين على الماء، ومات بالعطش أفضل منهم، لأنهم يقصدون ادخار الكرامة للآخرة، ويدلك على ما ذكرنا من أن الكرامة لا تدل على الأفضلية كثرة الكرامات، بعد زمن الصحابة.

قال الإمام أحمد بن حنبل: وذلك لأن إيمان الصحابة قوي بخلاف إيمان من بعدهم فاحتاجوا إلى زيادة تقوى إيمانهم، وأيضاً فلأن الزمان الأول كثير النور لا يفتقرون لزيادة تقوى، ولو حصلت لم تظهر لاضمحلالها في زمن النبوة بخلاف الظلام، والنجوم لا يظهر لها ضوء مع الشمس، ولهذا قال بعض المشايخ في مريم ابنة عمران رضي الله عنها: إنها كانت في بدايتها يصرف إليها بخرق العادة بغير سبب، تقوية لإيمانها، فكانت كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا، قال: يا مريم أنى لك هذا؟ قالت: هو من عند الله، ولما قوي إيمانها ردت البيت، فقيل لها: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا [مريم ٢٥] ، ولهذا سأل موسى ربه مع كمال رتبته بقوله: رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ [الأعراف ١٤٣] لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [القصص ٢٤] قال علي وغيره: والله، ما طلب إلا خبزا يأكله، ونادى باسم الربوبية، فإن الرب من رباك بإحسانه، وغناك بإنعامه، فإن قلت: فلأي شيء لم يطلب الخليل عليه الصلاة والسلام حين رمي بالمنجنيق في النار، قد تعرض له جبريل، وقال: ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا، وأما إلى الله فلي، قال: سله قال:

حسبي من سؤالي علمه بحالي؟ فالجواب: أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يعاملون كل مقام بما يفهمون عن الله تعالى أنه الأليق بهم، ففهم إبراهيم عليه الصلاة والسلام أن مراد الحق في ذلك المقام، عدم إظهار الطلب والاكتفاء بالعلم، فكان فهمه لأن الحق أراد أن يظهر من قوله: إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ [البقرة ٣٠] في جواب أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ [البقرة ٣٠] قال سيدي أبو الحسن الشاذلي فكأنه يقول: يا من؟ قال:

أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء كيف رأيتم إبراهيم خليلي؟ وإنما تصدر الكرامة وإخفاءها، نص على ذلك القشيري وغيره، وقد يكون بقلب العين وهي الأرض وكلام الجماد، وبرء العلل، ونبع الماء والاطلاع على الضمائر، وجفاف البحر، وكلام الموتى، ففي رسالة الشيخ أبي القاسم القشيري رحمه الله تعالى بإسناده أن أبا عبيدة السري رحمه الله تعالى غزا سنة، فجرح في السرية فمات المهر، وهو في السرية فقال: يا رب، أعرني إياه إلى [بسر يعني قريته] فإذا المهر قائم، فلما غزا ورجع قال لابنه خذ السرج عن المهر، فقال: إنه عرق، فقال:

إنه عارية، فلما أخذ السرج وقع ميتا.