عليه، ومحبّة العالم دين يدان بها العلم، يكتسب العالم الطاعة في حياته وجميل الأحدوثة بعد موته، ومنفعة المال تزول بزواله، مات خزّان الأموال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدّهر أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة، هاه هاه، وأشار بيده إلى صدره، إنّ هاهنا علما لو أصبت له حملة بلى أصبته لفتى غير مأمون عليه، يستعمل آلة الدّنيا للدّين، فيستظهر لحجج- الله تعالى- على كتابه، وبنعمه على عباده، وينقاد لأهل الحق ولا بصيرة له في إخبائه، يقدح الشك في قلبه بأوّل عارض من شبهة، لا ذا ولا ذاك أو منهوما للذّات، سلس القياد للشهوات، أو مغري لجمع الأموال والادّخار لهما في دعاء الدين، أقرب شبها بالأنعام السائحة، كذاك يموت هذا العلم بموت حامليه، اللهم لا تخلو الأرض من قائم لله- عز وجل- بحجّة الله لكيلا تبطل حجج الله وبيانه أولئك هم الأقلّون عددا، الأعظم عند الله قدرا، بهم يدفع الله- عز وجل- عن حججه، حتى يؤدّيها إلى نظرائهم، ويزرعوها في قلوب أشباههم، هجم بهم العلم على حقيقة الأمر فاستلابوا ما استوعد منه المترفون، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون، صحبوا الدّنيا بأبدان أرواحها معلّقة بالنّظر إلى الأعلى، أولئك خلفاء الله في بلاده، ودعاته إلى دينه، هاه هاه شوقا إلى رؤيتهم، أستغفر الله لي ولك، إذا شئت فقم،
ودخل ضرار بن صخرة الصدائي على معاوية- رضي الله تعالى عنه- فقال: صف لي عليّا، فقال: كان والله بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلا، ويحكم عدلا، يتفجّر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدّنيا وزهرتها، ويستأنس إلى اللّيل وظلمته، وكان والله عزير الدّمعة، كثير العبرة، طويل الفكرة، يقلّب كفّه، ويخاطب نفسه، يعجبه من اللّباس ما قصر، ومن الطّعام ما خشن، كان والله كأحدنا، يدنينا إذا أتيناه، ويجيبنا إذا سألناه، وكان مع تقرّبه إلينا وقربه منّا لا تكلّمه هيبة له، فإن تبسم يضيء مثل اللؤلؤ المكنون المنظوم، يعظّم أهل الدّين، ويحبّ المساكين لا يطمع القويّ في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله فأشهد بالله لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله وغارت نجومه يتمثّل في محرابه قابضا على لحيته يتململ تململ السّليم، ويبكي بكاء الحزين فكأني أسمعه الآن
وهو يقول: يا دنيا يا دنيا، غيري غيري ثم يقول للدنيا: إلى تعرضت، أم إلي تشوقت؟ غري غيري قد بنتك ثلاثا فعمرك قصير، ومجلسك حقير، وخطؤك كثير، آه آه، من قلّة الزّاد، وبعد السفر، ووحشة الطريق،
فوكفت دموع معاوية على لحيته ما تملّكها، وجعل ينشفها بكمّه وقد اختنق القوم بالبكاء، وقال هذا أبو الحسن، كيف وجدك عليه يا ضرار؟ قال: وجد من ذبح واحدها في حجرها، لا يرق دمعها، ولا يسكن حزنها، ثم قام فخرج، ولمّا امتلأ بيت المال من صفراء وبيضاء، قال:
الله أكبر، وأعطى جميع ما في بيت مال المسلمين، وهو يقول: يا صفراء يا بيضاء غرّي غيري، حتّى ما بقي منها دينار ولا درهم ثم أمر بنضحه، وصلّى فيه ركعتين رجاء أن تشهد له يوم