فقد تبين لك- رحمك الله من الأحاديث السابقة- حياة النبيّ وسائر الأنبياء- صلى الله عليه وسلم- وقد قال الله سبحانه وتعالى في الشهداء: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران: ١٦٩] والأنبياء أولى بذلك فهم أجل وأعظم وقلّ نبيّ إلاّ وقد جمع مع النبوة وصف الشهادة، فيدخلون في عموم لفظ الآية، فثبت كونه- صلى الله عليه وسلم- حي في قبره بنص القرآن إمّا من عموم اللّفظ وإما من مفهوم الموافقة.
الثاني: إن قيل: إن
قوله- صلى الله عليه وسلم-: «إلا ردّ الله إليّ روحي»
يقتضي مفارقة الرّوح لبدنه الشريف في بعض الأوقات، وذلك لا يلتئم مع كونه حيّا على الدوام.
وقال الشيخ الإمام العلّامة علاء الدين القونويّ الشافعيّ في «آداب البحث» له: ظاهرة رد روحه- صلى الله عليه وسلم- عند سلام أول من سلّم عليه- صلى الله عليه وسلم- بعد وفاته، ثم إما أنه أن يقال: باستمرار حياته بعد ذلك، وبقاء روحه المباركة في جسده الشّريف، كما كان قبل، وهو المدّعى ويحسن على هذا أن يقدر في حديث لفظة «قد» بعد أداة الاستثناء حتى يكون المعنى: ما من أحد يسلّم عليّ إلا قد رد الله علي روحي. انتهى.
وهذا أحد الأجوبة قاله البيهقي.
وبهذا جزم الإمام العلامة جمال الدين محمود بن جملة خطيب الجامع الأمويّ في كتاب الصلاة على النبي- صلى الله عليه وسلم-: وهو كتاب جليل ولم يطلع عليه شيخنا رحمه الله تعالى، وقد أوضح الشّيخ بلك في «فتاويه» قبل الوقوف على كلام البيهقي فقال في فتاويه: إن قوله:
«ردّ الله تعالى» جملة حالية وقاعدة العربية أن جملة الحال إذا وقعت فعلا ماضيا قدّرت فيها «قد» كقوله تعالى: أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ [النساء: ٩٠] أي قد حصرت، وكذا هنا تقدر الجملة ماضية سابقة على السلام الواقع من كل أحد «وحتّى» ليست للتعليل بل مجرد حرف عطف بعمى «الواو» فصار تقدير الحديث: ما من أحد يسلّم عليّ إلا قد رد الله علي روحي قبل ذلك وأردّ عليه، وإنما جاء الإشكال من ظنّ أن جملة «ردّ الله» بمعنى الحال أو الاستقبال وظن أن «حتّى» تعليلة وليس كذلك وبهذا الذي قررناه ارتفع الإشكال من أصله.
قال: ثم بعد ذلك رأيت الحديث مخرّجا في كتاب «حياة الأنبياء» للبيهقي بلفظ: «إلّا وقد رد الله علي روحي» فصرح فيه بلفظ «قد» ورواية إسقاطها محمولة على إضمارها وأن حذفها من تصرّف الرواة، ومراد الحديث الإخبار بأن الله تعالى يردّ إليه روحه بعد الموت فيصير حيّا على الدوام حتى لو سلّم عليه أحد ردّ عليه سلامه لوجود الحياة فيه فصار الحديث موافقا للأحاديث الواردة في حياته في قبره، ويؤيّده من حيث المعنى أنّ الرد لو أخذ بمعنى الحال أو الاستقبال لزم تكراره عند تكرّر المسلّمين، وتكرّر الرّدّ يستلزم تكرار المفارقة، وتكرار المفارقة يلزم عليه محذوران: